لطالما مررت بسوقنا الشعبي الذي يزهو بناسه الطيبين منذ عهد الاستبداد وكذا في عصر الفاسدين .. عشت هنا أيام طفولتي وعملت فيه وما زلت ارتاده ليس للتبضع فحسب .. بل حنينا لناسه وسر جمال الله الساكن فيه .. باحساس لا يستمكنه الا من عاش طعم البساطة وسكنته فضيلة الفقراء ..
لطالما مررت ببائعة الخضروات .. ومع ان المصطلح هنا يشمل كل الفواكه والخضر المعروفة : ( باذنجان وخيار وطماطة وباقلاء وبطيخ وموز وشجر .. غير ذلك من نعم الله التي لا تحصى .. الا ان التسمية تشمل من يبيعون الزرع المكمل الغذائي الذي لا يعد وجبة بحد ذاتها ، من قبيل : ( الفجل والكرفس والريحان والرشاد والكركير .. وغيره ) ..
مع ضعف بدنها وكبر سنها وسوء حالها العام الا انها لم تفارق السوق .. ظلت وفية للزمكان حيث اسقطت بصبرها عروش الدكتاتورية كما أسهمت بفضح فساد الديمقراطية .. كانت تقدس العمل وتعده رسالة وطنية حيث قال النبي محمد ( ص ) .. ( انها يد يحبها الله ورسوله .. ) . وكما كنا نقرا صغارا على جدران المدارس : ( عملك شرفك فمن لا يعمل لا شرف له ) . تلك العبارة الرائعة التي للأسف الشديد ظلت حبر على الجدار وشعار بلا فخار ..
قبل شهر اختلست السمع لبعض كلمات مما باحت به لزبونتها : ( والله تعبانه جدا .. زوجت ابني وسكن بالغرفة الوحيدة التي كانت لي .. ولا زال عاطل ..احاول اساعده يعمل ببسطية قريبة مني لاني لا اقدر على فراقه ..فهو اخر ما تبقى من دنياي واخشى عليه من حكام ورفقاء السوء ).
في اول الشهر الفضيل مررت اشتري ( مسواق ) رمضان وعادة ما يكون مميز .. لأننا نعطي أهمية خاصة للاكل .. اذ نعيش طقوس الشهر اكثر مما نترجم فحواه ومعانيه .. سمعتها توجه نقد علني للسلطات بصوتها الجهور المعهود اثناء البيع .. اذ تمعن – على سليقتها – مزحا ونقدا بالسلطات بطريقة محببة بلا تجريح وتخديش حياء ..
قالت : ( اهلي شتتوا منذ ويلات الحروب والحصار قبل 2003 وما اكل منهم الاحتلال الامريكي .. وما تبعه من ارهاب وطائفية وتهجير وتقتيل وفساد .. اما زوجي المساق للحروب كلها مكلفا لخدمة العلم فمات مريضا دون أي حقوق او تقاعد حاله كبقية اقارنه وهم بالالاف .. لم ارث منه سوى حب العراق والعهد على إتمام الأمانة وعدم سرقة حقوق الناس ولا رفع شعارات كاذبة ) .
بعد زفرات وشهيق حرقت به السوق وأهله كانها تعاتب الوطن والوطنيين فيه ، قالت : ( كلما اسال عن سلفة للفقراء اسمع الكثير من التطبيل والتهليل .. لكن زيارة واحدة للمصارف تثبت ذلك الزيف .. حيث يطالب الفقير بسيل من المستمسكات والطلبات … فضلا عن كفيل مستعصي مع أقساط متعبة وارباح مكلفة ولم يبق في العمر بقية .. فالمصارف والامتيازات ميسرة للمسؤولين ومعقدة على الشعب ) .
بهذه الاثناء .. ما ان علا صوت المؤذن بجمالية نداء .. ( الله اكبر ) .. تركتني اهذي قبل ان اختم او تكمل همها .. دخلت الى جوف الدكان .. فرشت كيس قش واتجهت نحو القبلة .. لم اسمع منها الا ( وجهت وجهي لله واسلمت امري للحي القيوم ..) .
عند ذاك دمعت عيني وخجلت من قلمي ..