ادعو في هذه المقالة الشباب عامة والمثقفين خاصة، من الاسلاميين والعلمانيين والمؤمنين وغير المؤمنين، الى التأمل والتفكير والتدبر في القران، بوصفه كتاب فكر وثقافة وقيم، بغض النظر عن النقاش حول مصدره بشريا ام الهيا. فهذه المسألة تعود الى العقيدة، فيما دعوتي الى التأمل بالقران متعلقة بالثقافة والفكر.
استمد هذه الدعوة من القران نفسه، الذي نقرأ فيه الايات التالية على سبيل المثال:
“كِتَابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ”. [ص: 29].
“أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا”. (محمد 24)
“أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا”. (النساء 82)
وهذه الايات كما هو واضح لا تخاطب المؤمنين بالوهية القران فقط، وانما تخاطب جميع الناس وتدعوهم الى التدبر في القران. والمقصود طبعا قراءته ومحاولة فهمه للتوصل الى مقاصده الاخيرة. وهذا هو المعنى المستفاد من الجذر اللغوي “د ب ر” الذي يعود إلى أواخر الأمور وعواقبها وأدبارها. فالتدبُّر، كما قالوا، هو: النظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه. قال الجرجاني في تعريف التدبر: “… وهو قريب من التفكر، إلا أن التفكرَ تَصَرُّفُ القلبِ بالنظر في الدليل، والتدبر تصرفه بالنظر في العواقب”. فالتدبر كما يبدو من هذا الشرح هو رحلة عقلية ومعرفية يقوم بها الانسان من اللفظ الى المعاني النهائية للفظ. ودعوة القران الى تدبر اياته ومفرداته تتضمن الادعاء بان هذه المفردات تحتوي من المعاني والمحتوى ما يتطلب الحصولُ عليه السياحةَ في الالفاظ عبر التدبر والتفكير والتأمل فيها لاكتشاف معانيها ومراميها بدءاً من القريب وانتهاءاً بالبعيد.
ومن خلال تجربتي الشخصية مع القران الكريم، وبالاستفادة الكبيرة من طروحات السيد محمد باقر الصدر، تأكد عندي ان كلمات القران الكريم واياته تنطوي على طبقات من المعاني والافكار والمفاهيم التي يمكن للقاريء ان يتوصل اليها بمواصلة الحفريات عبر التفكير والتفكيك واعادة التركيب بين هذه الافكار. وفي كل جولة يخوضها القاريء مع القرآن الكريم سوف يكتشف ان رحلة الاستكشاف لن تنتهي، لان كل اكتشاف سوف يفتح ابوابا عديدة لاكتشافات جديدة. ومن هنا آمنت بصدق قول الامام علي عن القران الكريم: “وإن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق لا تفني عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلا به.”
في سعي الانسان الى التحصيل المعرفي والثقافي سيقوم بالاطلاع على المعارف التي كتب فيها من سبقه من العلماء والمفكرين. وقد تمكنت الى قراءة امهات الكتب التي سطّر فصولها كبار الفلاسفة والمفكرين من افلاطون وارسطو، وليس انتهاء براولز، مرورا بعدد كبير من نظرائهم، واستفدت مما كتبه هؤلاء كثيرا، وكان لهم الفضل الكبير في بناء المحتوى الفكري والمعرفي الذي انطلق منه في كتاباتي. لكني وجدت ان كل هذه المؤلفات لا تغني عن القران الكريم. صحيح انها تنفع في تعميق فهم القران واكتشاف معانيه، لكنها لا تستطيع ان تستغني عنه، لان ايات القران هي الكلمات المفتاحية وكلمات السر التي تفتح ابواب المعرفة وتمهد الطريق للسير الى تكامل المعرفة وشمولية الثقافة. لهذا وجدتُ من الامانة ان ادعو الشباب وسائر القراء والمثقفين الى الانفتاح على القران الكريم والتأمل في اياته والتدبر بكلماته.
سوف تلاقي دعوتي هذه نوعين من الردود السلبية. رد الفعل الاول من غير المؤمنين بالله او بمحمد او بالدين بصورة عامة. لهؤلاء اقول ان عدم ايمانكم ليس مبررا منطقيا ولا معقولا لعدم الاطلاع على كتاب من المحتمل ان يكون ذا فائدة معرفية لكم. و رد الفعل الثاني من اشخاص يرون انه لا يمكن التفكير بالقران الا لذوي الاختصاص بالعلوم الدينية. ولهؤلاء اقول ان ايات القران التي دعت الى التدبر في القران انما كانت تخاطب في الاصل غير المؤمنين بالقران اساسا، وهؤلاء ليسوا من العلماء المختصين.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *