يقول الكاتب الفرنسي فولتير “قد أختلف معك في الرأي، ولكني على استعداد أن أموت دفاعاً عن رأيك” ، وهي مقولة العمق الحضاري للديمقراطية الحقيقية على المستويات كافة، فيما ترى هيئة الاعلام والاتصالات ، ان الفهم الحقيقي للديمقراطية هي في ان “اختلف معك ولكن عليك ان تفعل في النهاية ما اقوله لك ” ، ويا للفرق بين المقولتين ، الاولى تمنح للمختلف معك حق الدفاع عن آرائك حد الموت ، فيما الثانية تستخدم السلطة لتدجينك حتى تفعل ما يملى عليك !
وهذا هو ما فعلته هيئة الإعلام والاتصالات بتعليق بث برنامج ” معملا طلال” والذي بثته فضائية “يو تي في” مسلطاً الضوء على خارطة الفساد في مؤسسة الجيش العراقي ، خارطة الفساد الذي تحدث عنها قادة البلاد انفسهم وبعظمة لسانهم ومن على شاشات فضائية لاحصر لها ، ولانريد ان نعيد ونكرر الحديث عن صفقات الفساد في مؤسسة ليست خارج النقد والانتقاد بكل المعايير فيما يتعلق بكشف الفساد ، وهو كشف غير آمني ولا يتعرض لسمعة الجيش ولاعدّته وعدده ،ولم يناقش البرنامج عقيدة الجيش ولم يستهن بتضحياته ، التضحيات الكبيرة بالارواح والمعدات التي كانت من النتائج المباشرة لاستشراء الفساد في المؤسسة العسكرية !
تبريرات هيئة الاعلام منطقية لكن معاييرها لاتنطبق على ما قدمه البرنامج باسلوب غير تقليدي ، هي تتحدث عن معايير العمل الاعلامي الوطنية ، والبرنامج يتحدث عن الفساد الذي لاتندمل جروحه بالتقادم !
واعتقد ان هيئة الاعلام والاتصالات انساقت وراء ضغوطات سياسية ، كان الاجدر بها ان تكون اقوى منها وهي الحامية لحرية التعبير في المؤسسات الاعلامية او هكذا يفترض بحسب قوانينها وما تصرح به !
لو قدم هذا البرنامج في بلاد ديمقراطية متحضرة ، لحصل العكس تماماً ، لكانت سياقات محاربة الفساد تذهب الى التحقق والتحقيق فيما اورده البرنامج من حقائق عن مستويات الفساد في هذه المؤسسة ..
لكن الهيئة فضّلت ان تذهب لأسهل السياقات واستخدمت صلاحياتها بشكل تعسفي متناغمة مع توجهات سياسية بتكميم الافواه تحت حجج الخطوط الحمر واهانة المؤسسة العسكرية ، التي اهانها الفساد وليس الاعلام الذي يكشف الفساد فيها !
لا أحد يزاود في الوطنيات فالجيش جيشنا وتضحياته محط اعتزاز وتقدير الشعب العراقي وشهداءه هم اباؤنا ودحره للارهاب وحماية البلاد لاتحتاج الى ادلة وشواهد ومزايدات ، كشف الفساد في أي مؤسسة من مؤسسات الدولة ، بما فيها المؤسسات العسكرية والامنية ، هو تقوية لها ومساهمة فعّالة من الاعلام الوطني بجهود تنظيفها من العناصر التي تسيء لها وتعرقل عملها بتقديم الخدمات للمواطنين.
لقد مارست الفضائية من خلال البرنامج دورها الاعلامي والوطني في كشف الحقائق للمواطنين والمسؤولين ولهيئات محاربة الفساد ، مقدمة دعماً لجهود محاربة الفساد المالي والاداري بكل شجاعة وجرأة ، وكان ينبغي تثمين جهودها بدل شن الحملات عليها من المؤسسة العسكرية نفسها واكملتها الهيئة بقرار تعليق بث البرنامج ، القرار السريع جداً ، وهو من القرارات السريعة التي يشم منها رائحة الضغوطات السياسية الواضحة المعالم !
الضغوطات التي سرّبت بعض المعلومات عن دور للسيد الكاظمي في تقديمه النصح للهيئة باتخاذ قرار التعليق ، ولو صحّت هذه التسريبات ، فاننا أما كارثة حقيقية في طبيعة العلاقة بين السلطة والاعلام وبين الهيئة المستقلة ” هيئة الاعلام والاتصالات ” والسلطة التنفيذية !
على الهيئة مراجعة قرارها التعسفي فوراً ، دون الحاجة الى اشتراطها رفع التعليق بحذف بعض المقاطع واعتذار الزميل احمد الملا طلال ، الذي اشد على موقفه الشجاع حين ردّ على هذه الاشتراطات علنا وقال ” تحرشت بعش الدبابير ، انتقلنا من مرحلة الفساد والفشل الى مرحلة الفساد والفشل وتكميم الافواه والدكتاتورية والقادم اسوأ ، لن اعتذر عن كشف جزء من الحقيقة ولن اعتذر للفاسدين”!!