كلما تمر ذكرى وفاة الموسوعي حميد المطبعي ، تتجول عيني على مواقع التواصل الاجتماعي ، والصحف في مسعى مني لقراءة موضوعات واستذكار عنه ، ولاسيما من الذين قدم لهم الكثير ، فأصبحوا اسماء “كبيرة” بينما هم صغار، والفضل كله للمطبعي الذي دبج لهم الكتابات والاشعار والمحاور والقصص .. و يا رب ، امنع عني السرد، حتى لا اقع في مصيدة ذكر الاسماء ، فدائما ، لا اجد من يذكره ، إلا القليل ، القليل .. لعن الله ناكري الجميل ، وهم كُثر في عالم اليوم !
فمثل يوم امس من عام 2018 ، ودعنا حميد المطبعي في فوضى الحياة التي تدور بنا ، ولا نعرف لها مستقراً .. ان صديقي ابا الخنساء ، مدين في شخصيته الى مزاجه الغريب ، والى احساسه المتردد بين العنف والرقة ، والصحة والمرض ، والى كبريائه مثل جبل أشم ، امام عواصف البؤس والشقاء .
غادرنا حميد المطبعي ، الى دنيا الخلود ، حاملا معه ارثاً عظيما من الوعي الانساني ، والثقافة العميقة ، ومعرفة شاسعة المدى بسيرورة الحياة ، .. ودعنا ضاحكا ، على دنيا اتسعت فيها رقعة النفاق ، وتقلصت مساحة الوفاء .. حميد المطبعي ، صديقي الأثير طوال اربعة عقود ونيف ، لم ار منه ما عكر مودتي له ، ومن خلال هذه الصداقة والصحبة الجميلة ، وجدت أن كتاباته المهمة والهامة ، هي مثل الحياة … فيها المطر والرعد والبرد والشمس والدفء ، وفي تربتها تنبت فاكهة تزهقك حلاوتها وكثرة فوائدها ،وحنظل ، له مرارة لا يمكن قهرها حتى أذا أغمستها بقوارير من العسل !
لو أودعت قلبك لديه ، لخرج فرحانا.. ومسرورا ولو أقنعته بأن يودع لديك قليلا من سريرته ، لشهقت.. أليس الحياة هكذا : تجربة تضع الناس في الغربال ؟ قراءاتي لكتابات المطبعي ، مسودات ومنشورة ، وجدتُ فيها حبه للتوثيق.. والتوثيق لديه , جزء من جمالية الحياة ، ولم أجده يوماً مغرماً بالحديث عن المال وطرق جنيه .. فالمال في حياته , شيء ثانوي . وعندما يتحدث عن المال, تشعر انك أمام رجل بدوي من القرون الوسطى .. لم أجده يوماً على كثرة زيارتي له وزيارته لي , انه مسك قلماً وورقة , دّون فيها ملحوظة ما تخص قضيه ماليه , تخصه أو تخص عائلته الكريمة , التي كثيراً ما عانت من زهده وعدم اكتراثه لعاديات الزمن .
هو لم يقرأ عنكبوتية الحياة بمنظور واقعي في ما يخص ظروف التحسب للقادم ، مثلما قرأ واقع الصحافة الادبية في العراق .. ومثالي هنا ، مجلته الشهيرة ( الكلمة ) التي انطلقت بإرادته الصلدة مثل الشهب في نهاية ستينيات القرن المنصرم ، وانتهت بإرادة الخبثاء الذين وضعوا العصي في طريق مواصلتها ، فماتت ، لكن مؤسسها المطبعي بقيّ طودا شامخا في خارطة الثقافة العراقية ، ونجما ساطعا في سماء الوعي والسمو والاخوانيات ..
مرة سألته مازحاً ، مستفزاً ، وكنتُ أظن إنني سأحرجه وأناكده : أراك فوضوياً ، تائهاً في هذه الدنيا يا حميد ؟ ففاجأتني إجابته التي أصر على كتابتها على ورقة صغيرة كانت موجودة أمامه ، احتفظتُ بها ( لا.. لكني ابتليت بالكتابة ، وكلما تألق إيماني بالكتابة ، شبهتُ الوطن بالملائكة ، لا فرق بين الوطن وبين الملائكة ، فهما من جنس واحد اسمه : العراق ، وكلما كبر العراق في عيني رميت بسهم قوي ، وكلما ضعف العراق في عيني ، رميتُ بسهم أقوى ، لا فرق بين العراق وبين الإيمان ، فهما هذان الكوكبان : أنا الحرية ، لا فرق بيني وبين الحرية ، لأني الكاتب الذي يمجّد نفسه بإيمان الحرية ، إذن : أنا الوطن ، فهل يندحر الوطن ؟ إذن : حرام أن أصلي بلا وطن ، وحرام أن أمشي خلف نعش كاذب ..!
نم قرير العين ايها الباذخ حبا ..
[email protected]
عمودي في صحيفة الزمان
( صورة عمرها 27 عاماَ ، تجمعني والمطبعي طيب الله ثراه ، مع زميليّ العمر د. احمد عبد المجيد ود. طه جزاع )

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *