في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي – ونحن تلاميذ في المدرسة الثانوية – كان يراودنا حلم بأن نجتاز دراستنا بنجاح لنرسم المستقبل الذي تطمح اليه نفوسنا ، كان الكتاب هو ما يشغلنا بل هو رفيقنا الذي لا يفارقنا ولم نكن نعرف عن السياسة شيئا في وقت نسمع فيه من الكبار قولهم ( دعوا السياسة لأهل السياسة ) وما الضير في ذلك ! اننا لن نتطرق الى السياسة بأي حال من الأحوال .. فها هي السفينة تمضي في مسيرتها من غير أن تلطمها ريح عاصفة ولا يعبث بها موج صاخب .
هكذا مضت حياتنا حتى فوجئنا بثورة 14 تموز عام 1958 ، صفقنا لها بعد ان اهتزت لها ضمائرنا ، وكنا نأمل أن ترسم لنا الثورة حياتنا من جديد الا أنها بعد شهور انحرفت عن مسارها وراحت تتخبط في طريق مظلم بعد أن استفحل الصراع السياسي بين القوى المتعددة المتنافرة حتى تحول الأمر الى قتال وسفك دماء امتدت آثاره الى الشارع .
وهكذا اقتحمت السياسة بيوتنا من غير استئذان نتحدث فيها عن السلطة وعن الأحداث الدامية
وما آل اليه أمر الوطن من سحابات سوداء تظلل سماءه لتتراءى فيها السفينة كأنها أوشكت على الغرق .
وما أن مضت عدة أعوام حتى سقطت السلطة القابضة على زمام الأمور وجاءت سلطة أخرى لم تكن بأحسن منها وهكذا دواليك سلطة بعد اخرى بينما ظل حديث السياسة نبض الشارع دون توقف طيلة عقود من السنين غير أنه بدأ يخفت حتى تحول الى همس بعد أن احتواه الخوف من بطش السلطة الذي لا يرحم …وما زالت السفينة تعوم في بحر لجي بعيدة عن شاطيء الأمان .
رأت بعض قوى المعارضة أن لا سبيل من الخلاص من هذه القيود الثقيلة التي يرزح بها الوطن الا بالاستعانة بقوى أجنبية ، وهذا ما حدث فعلا ..وبدأت صفحة جديدة تراءى فيها المشهد بوضوح ..لقد فقد الوطن سيادته بعد أن جثم الاحتلال الأمريكي على أرضه وعلى صدور أبنائه ،كما أنه بدا بوضوح على مدى سنوات أية لعبة قذرة يلعبها وأية فوضى خلاقة يصنعها ، غير أن من جاءوا مع الاحتلال وتقلدوا كراسي السلطة سحقوا كل التطلعات التي كانت تراودنا بعد أن نهبوا الثروات ومزقوا وحدة الوطن باثارة النعرات الطاثفية وبعد أن بات المواطن خائفا على حياته باغتيال أو تهجير .
لقد ضاع الوطن وضاع معه كل جميل وان حديث السياسة بات حديث الصغار والكبار ،فهذا وذاك وهذه وتلك باتوا كلهم يشغلهم حديث السياسة ، أما السفينة التي كانت تضطرب على سطح البحر فقد تحطمت الى أجزاء متناثرة ليبتلعها قاع البحر .

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *