الدول من مسؤولياتها رسم السياسات التنموية الاستراتيجية في مختلف القطاعات التي تديم حياة مجتمعاتها، ومن ذلك قطاع البيئة والزراعة، فالبيئة النقية تشكل عنصر مهم لديمومة الحياة، ومساهم فاعل في نجاح القطاع الزراعي، وصناعة الحياة بما يحقق الاستقرار.
فلو ناقشنا وضع الدولة العراقية فالمؤشرات الحالية تنبيء بمخاطر مهلكة ليس لحياة النبات، بل للحياة البشرية، فالبلاد تعاني من قحط مائي لقلة المتساقطات المطرية، وقد نجم عن ذلك جفاف، وتصحر خلف كتلا من الغبار تداهم المدن، وتستهدف صحة الناس، وتقضي على حياة المرضى وكبار السن، فتخلق أعباء إضافية على المؤسسات الصحية المتراجعة في خدماتها. وإذ تقترح وزارة الزراعة إلى غرس أكثر من 14 مليار شجرة لإحياء المناطق التي تعاني من التصحر، يشكل التجريف خطوة متقدمة في تحويل مساحات شاسعة من مناطق البساتين الى سكنية، كما هي الأخرى وزارة البيئة تهدد بأجواء مغبرة مخيفة تقول أنها ستواجه العراقيين، وتقدر 300 يوم بحلول عام 2055، وفي جانب آخر فان إحصائية للأنواء الجوية تقر بأنه بحدود 243 الى 272 يوما في السنة لفترة عقدين من الزمن، وربما تصل الى 300 يوم مغبر في حدود العام 2050، الذي ستبلغ فيه نسبة سكان العراق 50 مليون نسمة، ففي الحالتين تبدو الأرقام متطابقة والتحذيرات دقيقة، جميعها تنذر بواقع ومستقبل محفوف بالمخاطر والتحديات الاقتصادية والصحية والبيئية، والحزام الأخضر الذي كان يراد منه يكون ” طوق النجاة” من التلوث وحماية العاصمة بغداد والمحافظات الأخرى من العواصف الترابية، شهد اندثارا شاملا نتج عنه مزيد من التصحر، واما الوزارات المعنية فتحولت من مصدر للطمأنينة الى مصدر للتخويف والقلق، وكأنها ليست معنية بالموضوع، وإلا ما مبررات وزارات الزراعة والبيئة والموارد المائية أليست هي جزء من الحكومة، أم هي منظمات مجتمع مدني حتى تسمح لنفسها بالتحذير من دون البدء بتنفيذ الخطط التنموية ؟ وهذه التحذيرات تذكرنا بتحذير وزير المالية عندما أوجس خيفة في قلوب العراقيين، بقوله ان العقد القادم ستجف فيه موارد العراق المالية لأن النفط سيصبح سلعة بايرة ونسبة 60 بالمئة من استخداماته في قطاع النقل ستنتهي.
فالحزام الأخضر تم اقتلاعه واستخدمت الأشجار وقود، وبعض آخر مارس جريمة إعدام جماعي وتجريف للبساتين في المناطق السكانية والحيوية وانتهاك خصوصية البيئة بتحويل جنس الأراضي الزراعية الى سكنية، عندها زحف التصحر وشجعت سياسة الإهمال من الدولة وتجاوزات المواطنين الى اتساع رقعة الصحراء وانبعاث الغبار، فأشجار الكالبتوس والصفصاف والأثل وغيرها التي تزرع بشكل متداخل، وعلى شكل صفوف في مناطق هبوب الرياح الصحراوية من تلك التي تستطيع تحمل الجفاف وملوحة الأرض، وتمثل مصدات، جرفت مساحات واسعة منها.
أين هي ستراتيجية الدولة في الحفاظ على الجانب التنموي أمام انتكاسات، بيئية، اروائية، زراعية، صحية، لا تبشر بخير، إذ نسمع بالحزام الأخضر، ولكننا نواجه تدريجيا حزاما رمليا زاحفا مهددا للحياة، ونسمع بنمو القطاع الزراعي، لكننا نصطدم بمؤشرات دقيقة على أن نسبة انتاج العراق من القمح سجلت تراجعا في محصول السنة الماضية من خمسة ملايين طن الى ثلاثة ملايين طن، بينما طال التصحر نسبة 69 في المئة من أراضي العراق الزراعية. والعالم تطور كثيرا ويتطور تدريجيا بشأن طرق ارواء المزروعات بما يسمى بالإرواء المغلف، بينما العراق ما يزال على نفس طرق الارواء البدائية منذ قرون، ذلك يؤدي الى ضياع كميات هائلة من المياه برغم الشحة الحالية التي تسجل لنهري دجلة والفرات، وتقدر بحدود 73 بالمئة عما كان عليه قبل عقدين من الزمن.
وعلى الرغم من ذلك كله، فالمجتمع أيضا أمام انهيار في المنظومة الصحية من حيث تهالك المستشفيات على قلتها، وتقادم بنيتها التحتية، وحاجتها إلى الكوادر المختصة، وكأن الدولة غائبة عن تحمل مسؤولياتها في مواكبة التطور والتصدي للمخاطر.
فالدولة وأحزابها إن لم تكن تجهل بما وصلت اليه أوضاع البلاد، تراجعا وانحدارا في المجالات الزراعية والبيئية والصحية، والاروائية، فأنها تعلم، وقد تعتبره أمر لا يعنيها، أو أنها تعلم ومتقاعسة لضعفها، وفي جميع الحالات، الأمر مأسوف عليه لخطورته على الحياة العامة.
كاتب وأكاديمي