ما الغاية من قراءة نصوص مبهمة المعنى فارغة المحتوى؟ .
او بالأحرى ما الفائدة أصلاً من كتابتها؟
لماذا يتعمد الكاتب على إحاطة نَصِّه بالغموض والضباب؟ ثم يوهم نفسه أن ذلك نوع من المجاز او الخيال او الكناية، ليوهمنا معه في آخر المطاف ان ما يكتب ضرب من ضروب الحداثة.
ما من كاتب يحيط معناه بالعتمة ويكسو مقاله بالبهمة الا وفيه علة في تمكنه من آلته وقصور في أداته، فالوضوح اصل البيان وقد قال ربنا: انا انزلناه قرآناً عربياً اي قرآنا واضحاً -عند بعض المفسرين-.
تعالوا نَعُدْ قليلاً الى الوراء لننظر كيف أصّل العلماء للغة وبيَّنوها وعرَّفوها حتى سطعتْ جليةً بالإفهام، بلا غموض او إبهام؛ فحين وضع الإمام محمد بن عبد الله بن مالك ألفيته العظيمة في علوم الكلام ابتدأ في أول بيت من أول باب وهو باب الكلام وما يتألف منه فقال:
كَلامُنَا لَفْظٌ مُفِيدٌ كاسْتَقِمْ … وَاسْمٌ وَفِعْلٌ ثُمَّ حَرْفٌ الْكَلِمْ
انظروا الى قوله “لفظٌ مفيدٌ”، أي ذو معنى، حيث فائدة لكلام بلا معنى، سيكون حينها ضرباً من اللغو.
ثم اتبعها بمثال بقوله “كاستقمْ” وإنما اختار هذه الكلمة لسببين؛ الأول أنها دعوة للاستقامة في الكلام والميل به عن اللغط واللغو الفارغ، والثاني: انه أتى بجملة كاملة في كلمة واحدة ومعناها ايها المتكلم والكاتب والخطيب انت أمام لغة عظيمة، استقمْ بها ولا تنحدر بها نحو الإسفاف.
أما شيخنا الجاحظ فلا يوجد بمنزلته في فهم اللغة عالم من أترابه، ولا أحد يجاريه في إدراك القول احد من أقرانه وأصحابه، حيث يقول في “رسالة الجد والهزل”:
إن الله تعالى عَلّمَ آدمَ جميع الأسماء بجميع المعاني، ولا يجوز أن يعلِّمَه الاسمَ ويدعَ المعنى، او يعلِّمَه الدلالة ولا يضع له المدلول عليه، والاسم بلا معنى لغوٌ، كالظرف الخالي والاسم في معنى الأبدان، والمعاني في معنى الأرواح.
واللفظُ للمعنى بدنٌ، والمعنى لِلّفْظِ روحٌ، ولو أعطاه الأسماء بلا معان لكان كمن وهبه شيئاً جامداً لا حركة له. وشيئاً لا منفعة به. ولا يكون اللفظ اسماً إلا وهو مضمن بمعنى. انتهى قول الجاحظ.
لقد رأى الجاحظ حقائقَ مخبوءة فاظهرها لنا بمعرفته ودرايته، فلا مسوّغ لتعلم لفظٍ خالٍ من المعنى لأنك لن تستطيع استخدامه. ثم يسوق مثالين رائعين لتقريب الفكرة وتيسير الفهم، وشرح قوله هو :
ان الاسم بلا معنى كالظرف الفارغ من الرسالة، او كالبدن بلا روح، وقبل ذلك لا يوجد اسم بلا معنى لان مفردة “اسم” لا تُطلق على كلمة بلا معنى عندها ستكون صوتاً وليس اسماً. انتهى كلام الجاحظ.
وبناء على ما تقدم فإن “الألفاظ أبدانٌ أرواحها المعاني” والألفاظ بلا معان ليست شيئاً وهي محض اصوات ورمم بلا حياة، الترك لها أولى وأجدر. وأن المعنى لا يكتمل الا بالوضوح الذي لا يؤول ولا يلتبس، وكل لفظ خلا من معنى هو محض هراء، وكل ما غمض منه وأبهم يندرج تحت باب الإيهام والتدليس وهو ليس اكثر من النقر على جرّةٍ خزفٍ فارغةٍ لها صوت وليس لصوتها معنى.
فلننظر الى كم العبارات الفارغة من المعنى الخالية من المحتوى ومثلها ما التبس معناها وغمض محتواها كل ذلك يندرج تحت معنى الرَطْن؛ وهو الكلام الذي لا معنى له، والأولى ان نقول لمن كان لفظُه بلا معنى:يرطنُ ولا نقول: يتكلم، او يقول، او يتحدث، او ينشد.
وإنما اغرى هولاء الراطنين فيما القوا فسحةُ المجاز في اللغة وفهمهم لها ذلك ان من عجائب هذه اللغة أن المفردة تعيش فيها -بفهومها الواحد- عمراً طويلاً بين الأجيال، حتى يتلقّفُها الشعر والبلاغة؛ فيكسران ركودَ المُباشرةِ فيها، ويعتصران ما كَمَنَ فيها من أسرار، ويطلقان روح المعاني المخبوءة بها ثم يرسلانها من عالم المادية الجامد الى عالم الإحساس المطلق.
وستبقى المفردةُ حبيسةَ وحدانيةِ المعنى حتى اللحظة التي تدخل فيها كيميائية المجاز لتنطلق برحلة الكناية والتوظيف والاستعارة، رحلةٍ لها بداية وليس لها نهاية لتكونَ سبباً لوصلٍ وثيقٍ من خيالٍ بين عقلين ينفّرُهُما عن بعضِهما ألفُ واقع. وهما عقلُ الإلقاء وعقلُ التلقي.
لذا نجد أن الشعرَ والبلاغةَ هما الماردان القادران على أن يجعلا من المفردات جسوراً عابرةً من جمود الدلالة المحدودة الى فضاءات السِحر المطلق، وحسب الكلمات قيداً وأسراً أنْ تكونَ رهينة المعنى الواحد وقد توارى فيها ألفُ جناح للتحليق في عالم المجاز.
ولكن قبل هذا يجب ان نعلم ما المجاز وما تعريفه وتوظيفه وما هي قيوده وحدوده
وقبل كل ذلك يجب ان نعرف ان المجاز مُنكر -عند بعض العلماء- واسلوب مُحدث لا أصل له وسبب قولهم هذا ان أئمة اللغة المتقدمين كالخليل بن أحمد وسيبويه وأبي عمرو بن العلاء لم يتكلموا فيه ولا يوجد فيما وصل إلينا من كتبهم وكلامهم أدنى إشارة إلى هذا الاصطلاح.
غير ان عدم ذكره عند المتقدمين لا ينفي وجوده، كما ان علم اللغة علم قابل للاستكشاف والتحديث وما تركه او فاته الأولون لا ينفي وجوده وكشفه من المتأخرين. فقد اقره الجاحظ وقال فيه: هذا الباب هو مفخرة العرب في لغتهم، وعرفه الجرجاني فقال: كل كلمة اريد يها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والاول، وهنا الفكرة؛ ان يكون بين اللفظ والمعنى المجازي ملاحظة تربط بينهما فلا يطلق الكلام بلا مقاد فيكون اسفافاً، لان من علامات الاسفاف في المجاز حمل الالفاظ خلافاً لمعانيها بعيداً عن ظاهرها،
وقد رأيت اننا نحتاج الى تحديث في تعريف المجاز يتناسب ومفهوم العصر بعد ان توسعت اللغة وتداخلت المعاني ونشأ شعر التفعيلة وقصيدة النثر واستقينا كثيراً من العبارات والاساليب الادبية من لغات اخرى خارج العربية، فأصبح المجاز فناً واسعاً عابراً -حدوده التي رسمها وعرفها أئمة الأدب واللغة- ذاهباً الى ما “وراء المجاز” فاصبح بمفهوم العصر انه: اعتصار المفردة -بدراية ومعرفة- وتفريغ ما تحويه من دلالات خارج معناها المعروف، ومقصدها المألوف، بمفردها او باضافتها الى مفردة ثانية ليصبح رميةً لا يرميها الا المتكلمُ العارفُ فيصيب بها معنى لا يُحسنُه ويقدرُ عليه غيره من الناس.
وسيبقى الأدب العربي في نزول سائراً مُنحدراً الى الهاوية ما انفلت الأديب من قيود الرقابة اللغوية، وما استكبر على التصويب للأساليب الأدبية، وقد حدث ذلك ويحدث بسبب انحدار الذائقة الجمعية للناس والتي يمر بها المجتمع حالياً وقد نشات ذائقة جديدة تحسَب الاسفافَ فناً والهراء ادباً بكثرة نشرهما وكثرة الاشادة الجاهلة بهما وهذا يؤسس لذائقة هزيلة واهية ستكون -في حال استمرارها- مدرسة للقياس فيكون الأدب العربي اضحوكة بين آداب الامم.
وهذا ما تفعله اليوم مواقع التواصل الاجتماعي وتعززه برامج التنضيد والنشر الفردي المتاحة للجميع بلا تدقيق ادبي الذي يراعي الذائقة”ولا اقصد التدقيق اللغوي فقط” وتساهم فيه ايضاً دور الطبع والتوزيع التجارية التي تنشر بلا مراجعة مختصة التي من وظيفتها تصنيف وطبع ما يصلح للنشر والقراءة، وإهمال ما عدا ذلك.