يوم وضعت الحرب أوزارها، وأشتد وطيسها وارتفعت أعمدة الدخان من ساحاتها، اعقبت تفجيرات صارت الأرض ترتعد من تأثيراتها، والخطر بات سيد الموقف، والناس أصابها الخوف والهلع من مستقبل مجهول ينتظرهم، لا سبيل لهم سوى النزوح والبحث عن ملاذ آمن، فالحرب تعني زمن استحالة الحياة المدنية، وتعني القتال والدمار، والبطولة والاستبسال و الشهادة والفداء، عندما فرض الخطر نفسه ضد الحياة، في منطقة لم أكن أسمع بها سابقا، وقد أكون مررت بها كثيرا دون معرفتها، وتكرر اسمها عبر وسائل الاعلام أنها ” جويبه” أسم طرق أسماع العراقيين جميعا، ارتبط بالمدفع والطائرة وسلاح القنص والبراميل والإرهاب والدمار للمنازل والبنايات. كنا نسمع حرب جويبة معقدة لطبيعتها الجغرافية، وكثافة بساتينها وطرقها النيسمية التي يلوذ بها صناع العنف وعاشقيه. فللحرب رجالها وللبطولة صناعها، وخلف هذه المسميات قادة ينسون الحياة، وحتى ينسون أنفسهم وأهلهم وأبنائهم، ولهم فلسفتهم عند الشدائد والمحن، فالحياة عندهم مواقف استثنائية تجسدها بطولات واستبسال من أجل هدف يكمن بتحقيق الانتصارات، وفي عيونهم تتبدل الالوان، وخضار الأرض ليس كما هو في عيوننا، فالوان السلاح وأنواعها هي الأجمل عندهم، كونها المنقذ، ومفهوم صناعة السلام هو الدرس الأكبر، الذي ينبغي أن يسبقه انتصار في أرض المعركة، والقائد من لا فرق عنده بين الأبن والعشير والقريب عن الآخر مهما كان بعيدا، فالوطن صار ثمنا باهظا في الصدر، وقطعة وسط القلب، لذا هم يقولون الوطن أعز من الروح، ونقول الروح امانة في جسدها بعز الوطن.
كل ذلك والحرب تدور في جويبه، تلك المنطقة التي نمر بها، ولا نعرفها، بينما هي على طرف لسان المذيع في نشرات الاخبار، وكلام الناس الهاربين منها، هكذا يروون أن جويبه احترقت والمعركة شرسة جدا فيها، يخوضها أبطال شجعان لكن عدوهم شرس، لا قيمة للحياة عنده، يبحث عن الموت بلباس رث ولحية كثة. سألنا جميعا من يقود الحرب في تلك المنطقة التي سطع أسمها، قالوا ضابط كبير كأنه نابليون بونابرت، أصيب ورفض الإخلاء، يقود المعركة أمام ضباطه وجنوده، يطارد العدو في الطرق النيسمية، ثم يعود لمقره ليضع الخطط من جديد للقتال في جبهة أخرى يفتحها العدو من وقت لآخر، قائد تسابقت عنده الشجاعة وفنون القتال العسكرية، تسلح بعقيدة عسكرية خاصة به، تقول ” أن الرصاص لا يخترق صدر القائد”، ويقينه في تلك الأيام الاستثنائية، أن الرجولة طريقها معاكس لطريق الموت، بل للدفاع عن الوطن وطرد العدو وتحرير الأرض لتعود العجوز والطفل والكبار والمرضى وتبدأ الحياة جميلة، التراب والدخان وأبخرة المعركة طغت على لون بدلته المرقطة ورتبته ( لواء ركن) كما تعود الناس يطلقون عليه أبو حمره نسبة للركن الذي يطرز كتفه.
في وقت الحرب يقول المدنيون أعطي العسكر كل ما يريده، فأنه حتما سيموت في ساحة المعركة دفاعا عن الوطن، فلا تزاحمه إذا ما تقدم لحاجة يقف من أجلها طابور من الناس، لكن القائد أبو حمره، أمره مختلف تماما عن كل العساكر، فلم يعد يعشق الحياة المدنية، بل حتى رفض التمتع ولو لساعة على مدى شهرين من القتال والصولات والجولات ضد العدو، فالمعركة امتحان صعب، وهو القائد المنتدب للتو الى جويبه بعد ان تمترس الارهابيون في بساتينها منذ أسابيع، وأمر استدعائه لقيادة المعركة واجب وطني وتكليف عسكري، وليس خيار شخصي، والمعركة مفصلية لمصير المنطقة وبيوتها التي أخذت الاتربة والدخان تلوث غرفها وباحاتها ومضايفها، وتبدل لون حدائقها وبساتينها، وغالبا ما تخترق الصواريخ والقذائف جدرانها بل وتهدم كثيرا منها، نحن المدنيون، نتخيل عن بعد منطقة جويبة في ظروف المعركة الساخنة، ونتخيل وضع القائد أبو حمره. الزمان يسجل أحداثه المؤلمة في منتصف 2014 عندما سقطت عدد من محافظات العراق بيد تنظيم داعش، وفي ليلة باردة في 2015 التقيت ذلك القائد في بيت أحد الأصدقاء فوجدته بحق أسدا شرسا وعسكريا فخورا بنفسه وبجيشه، كل شيء عنده يحكمه القانون العسكري، وميدان المعركة هو ميزان الرأي، قلت له أرتبط اسمك بإسم “منطقة جويبة” التي كانت تذكرني بستالينغراد التي تعرضت للدمار، لحظتها أعاد الرجل ترتيب جلسته وتوازنه وشعرت بانفعال انتابه، وهو يتحدث عن تفاصيل تلك المعركة وسوء تدابير حكومية لم تقدر وضعهم، ولم تسعفهم في وقت الحرب عندما دارت رحاها، قال كلمته ” لقد كنا نتسابق مع عدونا على الموت، فجويبه قطعة من وطن هو العراق شهدت لي أرضه في مناطق عدة امتحانات بين الحياة والموت، وإني كم رجوت الموت من أجل ترابه، فشاكسته يا سيادة اللواء، نحن المدنيون نحيا من أجل بناء الوطن،، فرد عليه قائلا المفهوم مختلف بيننا، فالعسكر يضحون من أجل الوطن، حتى يشرع المدنيون من بناء الحياة……
قبل أيام وانا ذاهب برحلة الى الرمادي مركز محافظة الانبار وقبل الوصول اليها بحوالي 10 كلم، لفت انتباهي صورة كبيرة لضابط بملابس عسكرية في نصب تتوسط سيطرة أمنية، قرأت في أسفل النصب” سيطرة الشهيد اللواء الركن محمد خلف الفهداوي في منطقة جويبة”.
فقلت مع نفسي تلك العبارة، حتما سيموت العسكر فلا تبخل عليهم بشيء، فأول درس يلقى عليهم، أنتم مشاريع استشهاد، فالوطن في صدوركم. نعم الموت كان بانتظاره، وهو في طريقه الى الموصل بواجب عسكري، ليفارق الحياة مع زميل له بنفس رتبته، ومن منطقة جويبة التي قاتل عنها في حرب التحرير في 2014. عذرا لك أبا احمد اللواء الركن محمد خلف الفهداوي، أن أكتب عنك هذه السطور البسيطة، فلا تفي بحقك وبتضحياتك، فأرض “جويبة” التي دافعت عنها، حوت جسدك لتخلد في لحدك بعد أن أديت تحية الوداع لوطنك وشعبك، جنديا وفارسا صنت الأمانة، وتبقى صورتك ببزتك العسكرية المرقطة، تعكس شموخك وهيبتك.