قد تقضي نهارك مترنما بصوت شجي ، يدخل قلبك دون استئذان ، ويحرك مشاعر الوجد فيك ، ولا تملك سوى اعادته لتلتذ بسماعه دون ملل ، تدهشك وردة بلوحتها الطربية ( في يوم وليلة ) التي كتب كلماتها الشاعر حسين السيد ولحنها الموسيقار محمد عبد الوهاب ، وانت تستمع يحضرك سؤال لطالما تكرر : أين ذهبت تلك الأصوات الصادحة كبلابل الصباح وسكينة ليل الريف ، الكلمات التي تفوح بصدق المشاعر ، هل لأننا غادرنا الحب العذري بأشواقه اللاهبة ، وحسراته المتكسرة في الصدور ، وصوره المتخيلة بحسب الهوى ، وليس كما يجسدها هاتفنا الذكي اليوم ؟ . لم يبق من ذاك الحب سوى الحرمان من الأجساد ، فكل شيء صار متاحا من غزل الكلمات الى بهرجة الصور ، تلاشت حرقة الانتظار وشوق المواعيد ، فلا حاجة ملحة للقاء الغد ، فما يُراد يتحقق آنيا ، وفي لحظة الرغبة ، لا خوف او تحسب او تهرب من مطاردة عيون الآباء او تعصب الاخوان . فما عدنا أوفياء حتى للنوافذ التي شاركتنا لحظات الارتباك ، كم مدينون لها ، ما فرطت يوما بأسرارنا عندما ننظر خلسة للحبيب من وراء زجاجها ، او من فتحة صغيرة بعرض اصبعين متلاصقين ، لنا وحدنا دون غيرنا ، وتحسبا من افتضاحنا كتمت صريرها .
ذاك زمن وهذا غيره ، وعبثا تبحث عن حرقة اللقاء ، فلا تستغرب ان لم تتحرك المشاعر لهمسات كوكب الشرق الخائفة ( أغدا القاك ؟) ، فكم مرعب ذاك الغد الذي فيه من المعاني ما تعجز الكلمات عن قوله .
كل شيء فقد معناه في الروح والقلب ، وصار الجسد آخر حصون الحب ، وبتملكه يفقد الحب بريقه الأخاذ ، ولأنه آخر دروبه للمناورة ، غدا الجسد هما ، وعلينا ترميمه وصيانته ومحاكاة الجميل من الوجوه والأجساد ، حتى كدنا نتشابه ، فذابت هوية أجسادنا التي نتذرع بأي شيء لكشفها ، واطلاع الناظرين على رسومها ، حتى غدت الأجساد خامات للفنون بدل القماش والخشب والجدران ، لعلك تحظى بحب وان كان عابرا ، او نظرة اعجاب ترضي غرورا ، او تبدد شكوكك بجسدك ، مع انك موقن في داخلك ان الأجساد هشة وان سميت قلاعا ، ونعتت بأحلى الأوصاف وأرق الكلمات ، فباب محاكمنا يشهد انتحار تلك القلاع وبالمئات يوميا .
ليس هذا غريبا ، بل انت الغريب ، فما زلت تقارن هذا بذاك ، وتتحسر ، وقد تذرف دمعة لحب عذري غادره الجميع ، ولا يبحث عنه سواك ، تريده أصيلا ، لأنك تدرك ان الحياة لن تستقيم بلا حب ، وترى بعينك كثرة كهنة الكراهية ، وباتت متاحة ذرائع محاربة الحب وعلى أرصفة الطريق ، فلا تندهش من انطفاء أضواء المدينة ، وتيبس أنهارها ، فالشمس لن تشرق أبدا ان غرب الحب .
عندما ينتعش الحب ، ويستحضر صوره القديمة ، تستعيد الحناجر لمعانها ، والروح بهجتها ، والمشاعر صدقها ، والكلمات معانيها ، والحياة رونقها ، يقهقه الآخرون: عن أي شيء تتحدث يا هذا ، فلست سوى (هذا ) الذي سيغادر الذاكرة رويد رويدا ، وستفقد وجودك القريب لتكون ( ذاك ) ، وبعدها تتلاشى عن مسرحنا المفعم بالأشكال ، فذائقتك ما عادت تروق لنا ، فلا تتعب نفسك في استذكار ما تراه نبيلا . نعم أعرف ذلك تماما ، فقد اهتزت القيم ، وتبدل سلمّها ، وصار أسفلها عاليها ، ونحن نتفرج على تدحرج الأصيل منها دون أن يتحرك ضمير ، او نبدي قلقا ، ليس في الحب فحسب ، بل في مختلف أعمدة الحياة ، والحب أولها ، ومع ان بذرته مغروسة في الروح ، لكنها عصية على النمو ، يخيم عليها زمهرير اللامبالاة ، لا باب غير باب المدرسة لاسترجاع العافية . ايه ، أين ذهب بي الكلام ، كل ذلك حدث لمرأى مشهد تلفزيوني لاثنين يتبادلان حبا باهتا عبر هاتف ذكي ، الباهت يسورنا.