كان يسير الهوينا في شارع عريض مزدحم من شوارع لندن في تلك الساعة يتأمل الوجوه لعله يجد وجها يعرفه وهو المغترب الذي فر من وطنه قبل أن تغتاله يد وحش قاتل .

مضى على اغترابه هو وأسرته أكثر من عام ، ورغم ما عاناه من ألم يرافقه حنين شديد الوطأة على نفسه الى وطنه فان النجاة من الموت أهون عليه من معاناته هذه .

ما زال يسير الهوينا يتأمل الوجوه فاذا بوجه امرأة يطالعه شعر معه أنه يعرفه ..ترى أين رأى هذا الوجه من قبل ! فكر سريعا لعل الذاكرة تسعفه ، أتكون هي الصبية التي أحبها قبل ثلاثين عاما ! لا .. لا يكاد يصدق انها هي ، ما الذي جاء بها الى الغربة ؟ ان الأمر محير حقا ..أترى هذه المرأة لها شبه بمن كان يعشقها ، غير انه اراد أن يحسم الأمر سريعا فلم يتردد باللحاق بها قبل ضياع الفرصة .

– عفوا سيدتي هل انت من العراق ؟

رفعت رأسها اليه مستغربة قائلة :

– أجل .

ابتسم ابتسامة الرضا وتنهد متسائلا :

– هل اسمك نوال ؟

– كيف عرفت اسمي وانا لا أعرفك ؟

تأمل في ملامحها وقلبه يزداد خفقانا وهو يقول :

– أنا سعيد مصطفى .. أنا من ..

قاطعته بعد أن تفرست في ملامحه مليا قائلة :

– لا . لا يمكن أن تكون أنت ، ما الذي جاء بك الى هنا ! كم تغيرت ملامحك !

احقا بعد كل هذه السنين نلتقي !

– أرجوك يا نوال لنجلس ساعة من الوقت في هذه الحديقة المجاورة نسترجع ما مضى .

ترددت قليلا ثم ما لبثت أن رافقته .. جلسا على أريكة متجاورين تحت ظلال شجرة مرتفعة بينما أضفت عليهما أجواء الحديقة بسحرها وجمالها وعبق ورودها راحة وسكينة .

تطلع الى وجهها لحظات قائلا :

– بالكاد عرفتك يا نوال ، لقد تغيرت ملامحك كثيرا .

– هكذا يفعل الزمن فعله ، كم من السنين مرت منذ افترقنا !

– أعوام طويلة يا نوال انتهت معها قصتنا نهايتها المحزنة .

– لا تلمني يا سعيد ، لم يكن الأمر بيدي بعد أن دفعت دفعا الى الزواج .

– لا لن ألومك ..هكذا فرضت التقاليد نفسها وسط بيئة محافظة .

– وأنت حينها كنت تلميذا في الجامعة بينما كنت أنا قد أكملت الدراسة الثانوية

– وهكذا قضي الأمر .

– رحم الله أبي كأنه لم يصدق أن جاءني خاطب ليحسم أمري من غير أن أنبس ببنت شفة .

– على أية حال كانت نهاية أليمة لقلبينا .

– أجل كنت أبكي بصمت وظل طيفك يطاردني أعواما وكنت أهمس مع نفسي ما الذي يفعله الأن وكيف احتمل الصدمة ! لقد كان قلبي يحترق أن تنعتني بالخائنة .

– لا لم اظن بك هذا الظن بعد ان عرفت نقاءك خلال عامين من الحب الرزين

تطلع الى وجهها من جديد وهو يتساءل :

– ترى ما الذي جاء بك الى الغربة ؟

– نفس الأسباب التي جاءت بك .

– ومن معك ؟

– معي ابنتي وولدي اما زوجي فقد اغتالوه قبل سنوات اربع وعلى اثرها قررت مغادرة الوطن .

– حال يؤسف له ..واعزيك على هذا المصاب .

تنهدت قائلة:

– وانت من معك ؟

– معي زوجتي وابنتي والواقع اني لم اتزوج الا بالحاح من امي وبعد عشر سنوات من زواجك انت .

نظرت اليه نظرة اشفاق وحنان وهي تقول :

– هكذا انت يا سعيد نسيج من خلق رفيع

– انت يا نوال لم تبارحي ذاكرتي قط حتى الزواح لم يقف حائلا من التفكير فيك ..وقد فقدت طعم الحياة منذ افترقنا .

– انت تثير في المواجع بعد كل تلك السنين التي مضت وانا حزينة من اجلك

– الآن انا فرح وقد التقيت بك وانه يجب ان اراك بين حين وحين نستعيد فيه ذكرياتنا فحسب .

– قالت بتعجب متسائلة :

– كيف استطيع ؟

– لا حرج في ذلك ونحن في بلاد الغربة ..أبسطي الي يدك ولتكن بيننا صداقة

ابتسمت وهي تردد :

– وهكذا يتحول الحب الى صداقة ، قرار صعب .

– ما من حل آخر ، المهم أن نلتقي .

– وشعلة الحب هل تنطفئ ! والقلوب التي تنبض على ذكريات ما زالت تلاحقنا ماذا نفعل ازاءها ! قل لي لماذا التقينا اليوم ! وأي قدر جمعنا بعد فراق طويل !

– لا تخيبي أملي يا نوال ..عديني بأن نلتقي فحسب

– حسنا سأفكر في الأمر .

بسط اليها يده مودعا وهو يكتم صرخة من الحزن كادت تفضحه بينما حاولت هي أن تحبس دموعها في اللحظة التي تودعه .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *