إذا قصدتَ الصّدقَ في قولك، والحياد في بحثك، ضع الحَوادِثَ في زمنها، فليس لك محاكمة ما قبل ألف عام بعدالة اليوم، كان الغزو شيمةً واليوم أصبح شتيمةً. أمّا إذا كنتَ حزبياً عقائدياً فالماضي تجارتك، توجهه وفق حاجتك. هذا ما يُبث اليوم، مِن على المنابر، يُقدمه أصحاب عمائم هممهم مقصورةٌ على نبش الماضي بانفعال سياسي طائفي، لا دراسةً وبحثاً، تُقذف حمم الخُطب وأعناق المُجَهلين مشرئبة وأدمغتهم مخدرة.
استرعى انتباهي هجوم أحد المنبريين ضد عمر بن عبد العزيز(99-101هج)، ولم يجد فيه عيباً إلا اغتصاب حقّ العلويين في الحُكم. مع أنَّ الإمامة عليها إشكالٌ داخل الإماميَّة أنفسهم(أحاديثها التَّسعة عشر في الكافي). لم يشفع عنده لابن عبد العزيز منع سبّ العلويين في خطب الجمعة، حال توليه الخلافة(ابن الطَّقطقي، الفخريّ) ولا ماحاولته مِن تحقيق الاستبداد العادل.
لكنْ لو نظرنا إلى السّب السياسيّ نفسه لوجدناه حصل بين المعسكرين في ذروة القتال، ألم يُنقل عن عليّ بن أبي طالب(اغتيل: 40 هج): عندما «سمع قوماً مِن أصحابه يسبون أهل الشَّام أيام حربهم بصفين: إني أكره لكم أنْ تكونوا سبابين (نهج البلاغة)؟! غير أن السَّب ِمن المنبر الرَّسميّ غير سب الانفعال في المعارك! لهذا اعتبر ابن تيمية (728هج) سبَّ عليٍّ مِن قبل الأمويَّين بغياً(الفتاوى الكبرى). أقول: وليت مَن يخرج ويحسبُ سبّ أبي بكر وعمر، مِن المنبر الصَّفويَّ بغياً، مع وجود المعترضين، مِن فقهاء الإماميَّة، الضَّائعة أصواتهم وسط زعيق المنبريين.
نسى (لاعن) عمراً أنَّ شاعرين علويين، أحدهم بالانتماء وآخر بالنَّسب، رثياه. قال كُثَيَّر عَزَّة(ت: 105هج): قَدْ غَادَرُوا فِي ضَرِيحِ اللَّحْدِ مُنْجَدِلًا/ بِدَيْرِ سَمْعَانَ قِسْطَاسَ الْمَوَازِين ِ(ابن الأثير، الكامل). قال الرَّضي(ت: 406هج): يا ابن عبد العزيز لو بكت العين/ فتىً من أمية لبكيتك الأمين، أعيان الشِّيعة). تاريخ دمشق
ماذا يُقال عن عبد الرَّحمن بن الحكم الأموي- أخو مروان- عندما وصلت الرُّؤوس دَمشق مِن كربلاء: لهامٌ بجنب الطّف أدنى قرابةً/مِن زياد العبد ذي النَّسب الوغل/ سُمية أمسى نسلها عدد الحصى/ وبنت رسول الله ليس لها نسلُ»(ابن عساكر، تاريخ دَمشق)، غامزاً عبيد الله أمير الكوفة، وهل فكرَ المنبريون بالمصاهرات والقرابات بين أبناء وأحفاد أطراف النِّزاع؟!
كان محمَّد بن جعفر الطَّيار مع أخيه لأمه محمد بن أبي بكر مطاردين معاً(القفطي، المحمدون مِن الشُّعراء). مثلما أنَّ عائشة بنت أبي بكر تُسب اليوم، بينما في الأمس فاطمة بنت الحُسين تروي حديثاً عنها(العسقلانيّ، الإصابة)! كان زوج زينب بنت عليّ، ابن عمها، عبد الله بن جعفر صديقاً لمعاوية، وسمّى ابنه معاوية، وعندما مات صلى عليه ابن عثمان بن عفان(ابن عنبة، عمدة الطَّالب).
إذا ذكرنا المصاهرات والقرابات بين المحسوبين أعداءً اليوم ما انتهينا، لكنَّ المنبريين لا يصدقون، حتَّى لو أخبرهم الأبناء والأحفاد أنفسهم. كان عمر بن الخطاب منتبهاً لخطورة ذلك، فمنع إنشاد هجاء مشركي قريش وأهل المدينة، لأنه والعبارة له: شتم الحيّ والميت، وتجديد الضَّغائن»(ابن الأثير، أسد الغابة).
ما يُذاع مِن على المنابر اليوم فيه غَلبة اليأس وهلاك النَّاس، فالذين ولدوا بعد 2003 بلغوا العشرين عاماً، فماذا يا تُرى تحمل أدمغتهم مِن معارف، غير تجديد الضّغائن»! لقد «بلغ السَّيل الزُّبى» وسيغرق الجميع. أقول: إلى أين أنتم ذاهبون، وإلى متَّى نيران الماضي تبقى تلهب الصُّدور، برغبة صريحة لهدم الأوطان؟!
{ كاتب عراقي