في الدول ذات النظم الشمولية، ملكية كانت ام جمهورية، بحزب واحد او قائد أوحد، تتسلط اضواء التوصيفات على (المنقذ والمخلص والمحرر ورمز الامة والقائد الضرورة والزعيم الأوحد) الحاكم المطلق باسم الشعب أو الرب أو الامة في وسائل الاعلام والدعاية المقروءة والمرئية والمسموعة، هاملة او مهمشة جوانب او عناصر أخرى في تركيبة النظام، هي الاساس في صناعة التفرد والاستبداد، ويبدو ذلك واضحا وجليا في معظم دول الشرق الاوسط، حيث شماعة الدكتاتور العملاقة التي تتحمل اوزار كل ما يحصل في تلك المجتمعات، وكأنما منظومة الحكم وملحقاتها وثقافتها الاجتماعية والسياسية التي تتحكم في كل مفاصل المجتمع والاقتصاد بريئة مما يفعله الدكتاتور، وبذلك تجري عملية تقزيم لمأساة تمتد لعشرات أو مئات السنين وتكثيفها في فرد بذاته، هو في الاصل نتاج نظام بدوي قبلي في الفكر والسلوك، حتى لكأنك تشعر وأنت تقرأ التاريخ الغابر، ما زلتَ تعيش في أجواء وفضاءات خلفاء بني أمية والعباس وحتى ورثتهم من بني عثمان؟
في دمشق وبيروت كما في بغداد قبلهما، وما يحصل الآن من صراع دموي عنيف في اليمن وليبيا، ليس كما تسوق له بعض وسائل الإعلام من انه صراع بين الزعماء وبين الشعوب فقط، انه صراع بين الشعوب ومنظومة الدكتاتوريات الفردية والاجتماعية ونظمها الفكرية والثقافية والمذهبية، التي كثفت كل مساوئ التاريخ في السلطة التي استقطبت حولها كل مظاهر التسلط الاجتماعي والقبلي والديني المتطرف والفردية والنرجسية وإلغاء الآخر وتكميم الأفواه وإشاعة العبودية، وسخرت لأجل ذلك كل ما على الأرض وباطنها من كفاءات واموال وثروات وقوة وسلاح، حتى غدت إمبراطوريات بوليسية تحكمها مجاميع من انصاف المثقفين ومدعي الخبرة والمعرفة وافواج من الغرائزيين والوصوليين والساديين والفاشلين.
لقد شهدنا سقوط هيكل نظام صدام حسين، لكننا لم نشهد وطيلة 19 عاما سقوط منظومة الانتهازيين والفاسدين التي سرعان ما كيفت وضعها مع المستجدات الادارية الجديدة بعد السقوط مباشرة حتى تغولت واصبحت تمتلك وتهيمن على مفاتيح الثروة والحكم في البلاد وعلى كل المستويات الحكومية والبرلمانية والفعاليات السياسية، بل وغدت ظاهرة اجتماعية تتكثف في مفاصل مكونات المجتمع القبلية والعشائرية والدينية، وبدلا من دكتاتور واحد اصبح لدينا العشرات الذيين تطوف حولهم حلقات الانتهازيين والوصوليين واللصوص والطبقات الرثة التي اعادت تدويرها لكي تبدأ هي الأخرى مرحلة جديدة من الفساد والافساد ليس في العراق وحده بل في سوريا ايضا التي تعيث في الارض فسادا، فصائلا وميليشيات ومرتزقة، حيث أدرك السوريون بكل انتماءاتهم ومكوناتهم ان المشكلة ليست بشخص رئيس النظام فقط، بل في المنظومات الثقافية والسلوكية التي أنتجها النظام السياسي منذ عشرات السنين من الحكم المطلق، الذي انتج هو الاخر منظمات استقطب فيها مجاميع كبيرة من اللصوص والقتلة والانتهازيين ونكرات المجتمع طيلة حقبة حكمه، حقا لقد سقطت مجموعة انظمة في منطقتنا، وبصرف النظر عن الكيفية والالية التي سقطت فيها هياكلها، فان سقوط صدام حسين لم يكن على أيدي الأمريكان وقواتهم، بل ان نظامه كان قد اهترأ تماما وانهار يوم قرر إهانة شعبه وقتله، سواء في كوردستان أو في الأهوار أو في الرمادي أو حتى مع جناح من أجنحة حزبه، وكذا الحال في سوريا واليمن وليبيا ولبنان وإيران فقد سقطوا تماما في ذاكرة شعوبهم قبل أن تسقط هياكل انظمتهم ورموزها.
إننا اليوم وإزاء كل ما يحصل في بلادنا بأمس الحاجة إلى حوكمة قبل حاجتنا الى حكومة، وإلى عدالة ومعرفة أكثر من حاجتنا الى استنساخ تجارب شعوب اخرى لتصنيع نظام سياسي هجين وتداول سلطاته!
{ الحوكمة أو الحكمانية: هي تدعيم مراقبة نشاط المؤسسة او الحكومة ومتابعة مستوى أداء القائمين عليها، وهي مصطلح جديد في العربية وُضِع في مقابل اللفظ الإنجليزي (( governance وهي ايضا الحكم إلى أفضل الأشياء بأفضل العلوم.