ليس العراق سوى دار كبيرة، وليس العراقيون سوى عائلة كبيرة، دار كبيرة وعائلة كبيرة تضمُّنا بحب وشرف وكرامة، ونحن نرتقي في ظلالها إلى العلياء، فالسلام على ديار العراق كل العراق، من زاخو إلى الفاو ومن طريبيل إلى المنذرية، السلام عليها دارا دارا، السلام عليها ماءً وأنهارا، السلام عليها أحجاراً وأزهارا، السلام عليها كلما أشرقت شمس، وطلع قمر، وبزغ فجر، وهبَّ نسيم، وزقزق عصفور، السلام عليها منذ هذه الساعة حتى قيام الساعة.
لقد كان العرب لا ينظرون إلى الدّار على أنها بيت من شَعر أو من طين أو من حجر، بل كانوا يعمدون إلى (أنسنتِها)، أي يتعاملون معها بوصفها إنسانا، وهكذا كانوا يسلِّمون على الدّار، ويحيّونها، ويتجاذبون معها أطراف الحديث، وكانوا يقفون عليها ويبكونها حبا، وإن لم يبق منها سوى طلل أو أثر أو رسم أو دِمنة، وكانوا يُقرنون بينها وبين الحبيبة، فكلاهما في القلب، وكانوا يذكرونها بصيغة الجمع، فيقولون: ديار العرب وديار القبيلة وديار الأهل والأحبة، وكان الشعراء الجاهليون يبدؤون قصائدهم بما سُمِّي بـ (المقدمة الطللية) إذ يقفون على الأطلال ويبكون عليها بقلوب موجَعَة ويستلِذّون في وصفها ووصف ما بقي منها، وجعلوا الوقوف على الأطلال والبكاء عليها قاعدة فنية لقصائدهم ، ونادرا ما كانوا يخرجون عنها، وامرؤ القيس (ت 13هـ) كان أول من وقف واستوقف وبكى الديار، وقال حين بلغه مقتل أبيه: تَطَاوَلَ اللَّيْلُ عَلَيْنَا دَمُّونْ دَمُّونُ إِنَّا مَعْشَرٌ يَمَانُونْ
وإِنَّنَا لِأَهْلِنَا مُحِبُّونْ
نعم، نحن مُحبّون لأهلنا ولديارنا، ولا نفرق بين الدِّيار والأهل، فالسلام على الدِّيار، والسلام على أهلها،
وهذا جرير (ت 110هـ) يحيّي الدِّيار فيقول:
حيّوا الدِّيارَ وأهلَها بسلامِ رَبْعاً تقادَمَ أو صريعَ خيامِ
وهذا علي بن الجهم (ت 249هـ) يحيّيها أيضا فيقول:
قفوا حيّوا الدِّيارَ فإنَّ حقّاً علينـــــا أنْ نُحيّي بالسَّلامِ
وهذا البحتري (ت284هـ) يميل على الديار ليسأل عن بعض أهليها:
ميلوا على الدّارِ مِنْ ليلى نُحيّيها نعم ونسألُها عن بعضِ أهليها
والدار حياة، فيها ما فيها من ضجيج القول والعمل، وحولها ما حولها من صخب الأيام والسنين، وكم من حلو الكلام قد دار فيها، وكم من القلوب قد اشتعلت بالحب فيها.
واليوم، وقد انقطع عهد الوقوف على الأطلال والبكاء على الدِّيار، فإن عهد حب الدِّيار لم ينقطع، وعلينا أن نجدِّد هذا العهد، ونجدِّد الإنتباه إلى قيمة الدار، من أجل إعلاء شأنها والحفاظ عليها وحمايتها من كل شر، فهي حِصن العائلة المنيع، وحِماها الآهل بالمودة والإحترام والعزة والكرامة، وما أحرانا اليوم مع تجديد عهد الحب للدِّيار، أن نكون حريصين على أن تكون دورنا جميلة المنظر، رائعة التصميم، غنية المبنى والمعنى، وأن تكون شاهدا على حبنا للحياة واعتزازنا بعوائلنا وأهلنا، وإشارة على تطلعنا بشرف نحو الأمام ونحن نبذل الجهود الخلاقة من أجل تحقيق سعادتنا، ومن أجل أن يكون لنا وَقْع جميل وأثر رفيع على هذه الأرض التي جعلها الله تعالى لنا كفاتا أحياءً وأمواتا، ونريد اليوم أن نرى، كما قال عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ) في كتابه (دلائل الإعجاز)((آثار الماضيين مخلَّدة في الباقين، وعقول الأوَّلين مردودة في الآخرين))، والدار بأهلها، والدار: مخزن الذكريات وقاصَة الأيام السّالفة وصندوق الأمنيات ومجمع الأحبة والمقرَّبون، وحديقة القلوب الزاهرة، فسقاها الله الماء الطهور، وباركها بالخير وهو الذي بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وجعلها دار عز ومنعة، وطيَّب شذاها، وحمى أركانها، وجعلها دار كرام تطيب بذكرهم المجالس، وتخلِّد مآثرهم المدارس، فقد غرس الماضون وكانت لهم نِعْمَ المغارس، وقالوا فكان قولهم سديدا، وفعلوا وكان فعلهم رشيدا.
تحية لديار العراق وأهلها الكرام، في كل قعود وكل قيام.