منذ ولعت بحب القراءة وأنا أتوقف لبرهةٍ كلّما صادفني نص شجنٍ بليغ، سواء كان النص منثورًا أو منظومًا فكلاهما سيَّان عندي. وهنا، تتعدى اللغة كونها مجرد كلماتٍ منقوشة على جدران الورق. بل تصبح عندي كائنًا أو طبيبًا يمدُّ يد العون لتشخيص ما يعتلج في صدري، لوصفِ ماهية الأحاسيس التي أعجز عن وضعها في قوالب الكلمات. وويل عندما تكون الأفكار أضخم من أن توضع في توابيتِ المفردات. يقول دوستويفسكي في رواية المراهق «يعذبك في بعض الأحيان أن فكرك لا تسعه قوالب الألفاظ»
إنهُ حقًا لعذاب أليم.
لهذا، فما أكاد اقرأ نصًا أدبيًا شجنًا، حتى تتمخض روحي بكلِّ كيانها. وأعيد قرأته مرارًا، حتى يتوغل فيَّ، حتى يعانق قلبي ويموت هناك في أعمقِ نقطةٍ في بيداء فؤادي، ويبقى شاهدُ قبره خالدًا إلى أبدِ الأبدين.
اَستوقفني قول جبران خليل هذا
《 اتركني ووحدتي أرشفُ الدمع شرابًا، وأتنشق الحزن نسيمًا، واذْهبْ يا دهر إلى الغرب حيث اليوم في عرسٍ مع الحياة وعيدها، ودعني أنتحبُ في مآتمٍ أنت عاقدتها.
هذهِ ليست مجرد كلمات مرصوصة لإيصالِ معنى ما. هي قيحُ وجعٍ تراكم في صدره حتى انفجر فوق ثنايا الورق. ليس مجرد نص، إنما هي روحٌ خبرتَ معاني الوجع وسمعت تأوهات المغلوبين على أمرهم، وجاءت تخفف أهوال عذاباتهم، جاءت تقدم عزاءاتٍ لكلِّ أواهٍ عجز عن كشف مواطن العلل.
لعمري أن الكتب التي تعجز عن مواساة المرء والتخفيف من معانته وتشخيص آلامه، لا تستحق أن تقرأ.
لذا، فأن كتب الأدب التي تعجز لغتها ولو بجملة واحدة عن وصف شيئًا ما فيَّ أو ملامسة أعماقي لا أُعول عليها، فهي لا تعدو كونها مجرد جثةٍ هامدة لا روح فيها.