حينما اخذ الباص المشحون بالحزن والصمت والسواد يشق عباب الليل في طريقه نحو وادي الغري ، كانت كثير من الأفكار تراودني والالام تعتصرني بصورة جعلت مدرار الدمع سيلا عرمرا لم ينقطع متجاوزا حدود ( الصبر ) .. تلك المفردة التي يعزيني بها كل من يحبني لتخفيف المصاب .. الا ان الحقيقة المرة كانت تحرق فؤادي وتسحق كبدي وتغرز سكينا في احشائي وانا اعاني الم الفراق وفقد الضنى.
في الطريق ومع كل وعي وتسليمي التام لما اسلفت .. كانت تراودني أفكارا عاطفية او مجنونة او من بنات الصدمة – ان جازت التسمية – .. فقد طار قلبي حيث يرقد ولدي وحيدا بعد ان واريته الثرى منذ أربعين يوم .. وبقيت انتظر تلك المناسبة الشهيرة التي تسمى الأربعين وما يرافقها من شعائر وروايات اجتماعية و دينية تؤكد ان الأرواح تسمع وترى .. لم تشطح عيني ولم تنم ولو للحظة فقد اغرورقت بالدمع فضلا عن ايماني بلقاء ولدي .
لم ابالغ .. فقد كنت أتصور .. انه بانتظاري .. ويبادرني التحية بصوت او لمحة او لمسة .. او أي شيء من باب المعجزات التي كنت اعتقد تحت وقع الصدمة وشرود العاطفة انها ممكن ان تتحول الى واقع سيخفف ألم الفراق .
يا راقداً تحت الثرى
إني اراك فهل ترى
عصف شديد هالني
مٌذ اعتراني ما اعترى
حينما ارتميت على القبر بلا مقدمات .. طالبته ان يخرج .. ان يرد ان يسلم على امه وابيه .. قلت صارخا : ( لقد جئناك يا ولدي هذه امك وهذه بناتك اللاتي أوصيتني بهن .. ) .. تمنيت عليه ان يرد او يشق تراب لحده ويهدم طابوق قبره وينتصب واقفا بقمة شوقه ووجده الينا .. لكنه لم يفعل ظلت صورته تضرب باعماق وجودي وتتغلغل بكل كياني سالبة لب عقلي قاذفة ببواطني وظواهري مؤججات نار الشوق وسيل الدمع الذي لم يسكن فحواي ومكنوناتي ولم يخفف وطأتها المشهد بعد ان ارتميت بكل كياني صائحا .. بعد ان يئست من ردة فعله المنتظرة وعلمت ان ولدي قد شطب من سجلات الحياة فعلا اذ لا عودة الى ما قبل تاريخ 11- 5 – 2022 حيث كان آخر لقاء في المشفى .. اذ نظر الي بحسرات وطلبات يعلم برغم حبي وفدائي له ، لكني لا استطع تلبيتها ولن اقف حائلا امام القدر .. فيما نظرت اليه حد الخجل والحياء والهزيمة النكراء … امام اب عاجز بوقف تداعيات حالة ابنه السيئة ..
حتى توارت الاخبار بلحظات عصيبة .. لم امر بها طوال حياتي : ( لم أتذكر منها الا ما كنت اردده بصوت صارخ سمعه كل اهل القبور : ( ما مات قبلك .. ولا احد بعدك يموت ) .. فلم اتالم ابدا مثلما تالمت بفقد فلذت كبدي .. داعيا الله ان يحفظ جميع الأولاد ووالديهم .. فقد تيقنت ان ابني فعلا قد رحل الى عالم اخر بعد ان تركته هناك وحيدا غريبا موحشا تحت الثرى .. فلا يمكن ان تعيده الي مرة أخرى صرخات الحزن وعويل حر الوالدين وغيرهم من الاحبة .. لقد اسدل الستار وشطبت الاخبار وانتهت القصة التي علي ان اكابدها واصابرها واسال الله ان يخفف وطأها عني .. انه نعم السميع المجيب وانا لله وانا اليه راجعون !