المتتبع لتاريخ النهضة الاقتصادية والعمرانية للدول الأكثر تطور ونمو ، يجد أن التحدي بصرف النظر عن نوعه أو طبيعته هو من وقف وراء نهضتها ، فالرخاء مدعاة للهدوء والسكينة واعتماد البدائل التي لا تستلزم جهد أو جد أو سعي ، فالمال كفيل بتقديم الخدمة ، وتهيأت وسائل الراحة والرفاه ، وهذا حال الدول الأكثر غنى والاقل فقر ، فثروتها كفيلة بتقديم المستورد من الغذاء والدواء والعلاج والجهاز والاستخراج والنقل والإيصال والخدمة الفارهة ، بل وطبع ما يُقدّم قبال الخدمة والراحة . وبالقطع أن الحاجة والأزمة والنقص وتوفير المستلزم ، كلها أسباب للجد والكد وبذل الجهد وربما التنقل بين الأوطان لتقديم المنتج والمستخلص والخبرة ، بل والخدمة لمن اختار الراحة والسكينة من القادرين على سداد الفواتير ، وتقديم الاموال ، ممن فاضت ارضهم بالثروة وامتلأت خزائنهم بالأموال ، وأدارت إيراداتهم دول ، حتى عبثت بعقول بعضهم ، فراح يفكر بفتح البلدان ، واستبدال نظم ، وتغيير حكام ، وإثارت نعرات ، وتمويل نزاعات ، ليثبت جدارته بالثروة ، ومكانته بين الكبار ، وأحقيته بالتصدي ، والفضل يقيناً للثروة لا لحجمه ومؤهله وعمقه وتاريخه وامتداده . لم تكن ألمانيا صاحبة الاقتصاد الأول أوربياً والثالث عالمياً غنية مترفة ، لكن هزيمتها في الحرب الكونية الثانية بعد أن تمكن منها العدو ، ورغبتها في العودة إلى صفوف الكبار ، كان الحافز وراء نفض غبار الهزيمة ، وإعادة بناء ألمانيا الحديثة المسالمة ، المتطورة صناعة وطب وتكنلوجية . وخرجت اليابان مهزومة منكوبة مبتلية بتلوث القنبلة الذرية ، فكان ذلك حافزاً لها لأن تطلق صرختها التي راحت مثلاً ” تشرق الشمس من اليابان وتغرب في أوروبا ” فواصلت من أجل الغاية الليل بالنهار ، فكانت القوى الصناعية التي دقت أبواب الأكثر تطوراً فأرقته ، والاقل فغطته ، بصناعة أكثر تقانة ودقة وتطور ، ولم تترك صغيرة ولا كبيرة الا وغطتها . ويقيناً أن انهيار الاتحاد السوفيتي في العقد الأخير من القرن العشرين ، كان الحافز وراء ولادة الأخطبوط الروسي ، فقد أبى وريث الاتحاد المجزء ، الوقوف دون صناعة حربية ، ولا آلة زراعية ، أو صناعة تنافسية ، وعزّ على قادتها الوقوف متفرجين والأحادية القطبية تجوب العالم طولاً وعرضاً ، شرقاً وغرباً ، مرة باحتلال وأخرى بتغيير نظم حكم ، وثالثة باستنزاف ثروة وابتزاز حكام ، ورابعة بدعم تنظيمات أرهابية ، فأستذكر الوريث عهد الثنائية القطبية ، وأسبقية ركوب القمر ، وسباق التسلح النووي ، وخطابات خروشوف في الامم المتحدة حينما حذر العالم وهو رافعاً حذاؤه بيمينه فأحرج الكبار ، من هنا راح يجمع الحطام ، ويلملم الشتات ، ويحتضن بقايا من لم يستقطبه الغرب والضد النوعي ، من العلماء والمبتكرين والأساتيذ ، فعاد الوريث منافس ، مناكف ، متصدٍ ، راعٍ ، يقود ويحتضن كل من تضرر من سياسات من تفرد في قيادة العالم . ولم تكن تجربة ماليزيا المعاصرة أقل نجاحاً من نظيراتها العالمية ، فقد ورث محاضير محمد ماليزيا انقاض دولة ، الصراعات العرقية تسودها ، إذ يتألف شعبها من سكان الدولة الأصليين ” الملايا ” ومن أصول هندية وصينية وأقليات أخرى ، ولم تكن الصراعات الدينية اقل خطراً على وحدة الشعب من نظيرتها العرقية ، إذ ينقسم شعب الدولة في انتمائهم الدينية بين اكثر من ثمانية عشر ديناً ، ولم يتجاوز دخل الفرد السنوي الف دولار ، وتتجاوز نسبة البطالة 52٪? ، ويعتمد دخل الدولة على الزراعة بآلياتها المتخلفة وتصدير القصدير ، ومن هذا الواقع المهشم ، ومتراكم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية ، تمكن محاضير محمد من نقل ماليزيا الى مصاف الدول الأكثر نمواً ، بعد أن أتجه لترصين وتوسيع المؤسسات التعليمية ، ودعم القطاع الصناعي المتخلف وحدثه ، وادخل التقنيات الحديثة في الزراعة والارواء ، وجرم النعرات الطائفية والعرقية ، ودعم الرعاية الاجتماعية والصحية ، وعمل على خلق فرص عمل إضافية ، حتى انخفضت نسبة البطالة من 52 بالمئة ? سنة 1970الى اقل من 5 بالمئة ? سنة 2002. ويقيناً أن تجارب نجاحات البلدان عديدة ، متجددة متنوعة ، غربية وشرقية ، والجامع بينها التحدي والإرادة والرغبة في تحويل الإخفاق نجاح . لقد مر العراق في تاريخه بسلسلة من الإخفاقات ، تتلوها نجاحات ، فتاريخ العراق احتلالات تعقبها تحريرات وازدهارات ، وبعد كل ما تعرض له العراق المعاصر من شموليات وتفردات في الحكم ، ومؤمرات وحروب وهزائم وحصارات وارهاب ، آن الأوان للانتفاض على الواقع ، فقد جف النهر ، وجدبت الأرض ، واستبيح الوطن ، وانتشر الفقر ، وتفشى الفساد ، وازدادت البطالة ، وشح الكهرباء ، واستنزفت الثروة ، وراح أعزت القوم أذلة ، وتسيد أراذلهم بما سرق وأفسد ، حتى راحت نذر الانفجار تلوح في الأفق ، بعد أن تدخل الإقليم ، واختُطف القرار ، وتحكم الغريب ، ونفذ صبر الشعب ، وبالقطع أن حجم التحدي كبير ، والمراهنة على الفشل كثير ، والمتآمر على الوطن يزيد ، وفرص النجاح تضيق ، لكن التحدي يُظهر المعدن ، ويُفجر الطاقة ، ويشحذ الهمة ، ويوحد الجهد ، لاسيما وأن العراق موقعه محور ، وأرضه ثروه ، زرعه وفير ، ومياه عذب ، رجاله ملؤهم غيرة ، ونساؤه كلها شرف ، علم رجاله غزير ودينه مُحافظ ، أساسه متين وتراثه أصيل ، ويقيناً أن فرصة النجاح قد لا تتكرر ولا تتعدد ، فالعالم يقف على أبواب أزمة طاقة وغذاء ، وفي العراق من المقدمات ما يؤهله للتصدي ، والعودة والنجاح ، ففي باطنه الطاقة ، وبين جنبات أرضه الخير الوفير ، فأرضه الموصوفة بارض السواد ، قابلة للاحتفاظ بالوصف ، لو أدخلت التكنلوجيا ، واستوردت الإله ، وجيئ بالحديث ، وليس في ذلك عيب ، فصناعة العالم وزراعته تقوم على التكامل ، فبعضه يزرع ، والآخر يصنع ، وثالث يستهلك ، ومن يُصدر بضاعة ما غالباً ما يستورد غيرها ، ففي التكامل النجاح وفي غيره الإخفاق ، وسعيد من فهم الدرس ، واستوعب الازمة ، وعمل بأسباب النجاح .