المجعة هي بالعامية العراقية ان تشرب الماء لمرة واحدة . والغريب اننا لو ابدلنا الميم الى نون لكان لها مقارباً في نفس المعنى لكلمة مجعة حيث تُعرفْ كلمة نجعة في قواميس اللغة بأنها : طَلَب العُشْب ومَسَاقط المَطر.

وهي ربما كافية لتروي الغليل . واحيانا يتداول السكارى هذه المفردة في ليل نادي الموظفين في مدينة الناصرية ، عندما يعتقدون ان مجعة واحدة ( ارتشافة ) من جعة فريده او سنابل أو اللاكر الذهبي ، تمنحهم الرغبة ليكتبوا رسائل الغرام حتى على علب السكائر الفارغة او على الطاولات التي يسكرون عليها .

غير ان ذكرى اول مجعة من حليب الجواميس أتت اليَّ بطاسة كبيرة من المعدن ويسمونها هنا في قرية ام شعثه ( الغضارة ) وقد جلبها لي موظف الخدمة الراحل الى فردوس السماء الحاج شغاتي مع ابتسامة تعارف بريئة وانا في اول يوم تعينت فيه كمعلم في واحدة من مدارس الأهوار .

قال المدير : في مدارس المدن الحضرية يقدمون للمعلم في اول يوم تعيين قنينة ببسي كولا وقطعة من الكيك أو نفر كباب . نحن نتفوق على عليهم أننا نقدم لك مجعة واحدة فقط من حليب الجواميس ، وفي الليل مجعتين من جعة فريدة التي يجلبها الى هنا من يحب الكؤوس ، وهنا لدينا فريقين ، الاول للكأس وأغاني السيدة أم كلثوم ونجاة الصغيرة وداخل حسن وناصر حكيم ، والثاني لتربة الصلاة وذكر الرب عندما يشتد بريق النجوم .

وحين قلت أنني أريد ان أكون محايدا بين هذا وذاك ؟

قال المدير : كما يقول نزار قباني ، لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار.

لكنني وانا ارتشف اول مجعة من حليب الجواميس قررت ان أكون محايدا ،وانتمي الى عالم القراءة ، وقد جلبت معي في اول يوم تعيين مذكرات الشاعر الشيلي بابلو نيرودا والمسماة ( اشهد إنني قد عشت ).

ظلت مجعة الحليب معي في كل محطات حياتي القادمة ، شيء من الدسومة والمقارنة بين رائحة حليب ضرع الأم وحليب الجواميس فأتذكر قولا لكاهن بوذي وهو يكيل المديح لجواميس تسرح أمام المعبد وهي تنظر اليه بمرح :الجواميس ضرعا منقذاً للبوذي حين يريد ان يكمل مسيرته الى مدن الضوء.

وهنا مع قرى الضوء المصنوعة من القصب أتذكر جواميس أم شعثه حين تذهب الى قيلولتها اذ كانت تنظر الينا بلا مبالاة وكأننا غير موجودين ، وانتبهت الى أثدائها هادلة وفارغة ، لكن مشاعرها تتغير في عودتها المسائية اذ تنظر الينا بفرح وأثدائها ممتلئة وتدعونا الى مجعة من حليبها الناصع البياض مثل خدود الفلاحات اللائي كتب عنهن نيرودا في مذكراته وهن يفضن بكارته الطفولية في حقل الشوفان .

كان هذه العبارة وصفا لواحدة من حكايات كتبتها اول ايام التعيين ، ليحتج المدير ويقول لي : ابعد خدود الشيليات عن حليب جواميسنا .لأن هذا يعرضك الى وجع التقارير الحزبية وتبقى كل حياتك معلما في هذا المنفى.

أخـــذت بنصيحة المدير وغيرت الوصف .

ولكنني والى اليوم كلما ارتشف بفمي مجعة حليب ، أتذكر ذلك الوصف وتلك اللذة الحنونة من يد موظف الخدمة المرحوم شغاتي ،وهو يقدمها لي ويقول : خذ تذوق حليب الجواميس ، فهو حليب أرواحنا.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *