عاشت بيئة البصرة المتعدِّدة مذهبيّاً وفكريّاً صراعاً لا شفاءَ منه؛ معتزلة وخوارج وشيعة وأمويُّون وعبّاسيُّون وعثمانيُّون وعلويُّون وعرب وعجم..إلخ. وكلُّ واحدٍ من هؤلاء متهيِّئ لتكفير الآخر والانقضاض عليه. قدَّم الفراهيديُّ نظريَّة سقراطيَّة متواضعة في المعرفة، لكنَّها لم تهدِّئْ حدَّة الانقسام. واقترح ابن المقفَّع موقفاً مماثلاً، لكنَّ الصِّراع بقيَ قائماً حتّى جاء أبو الحسن العنبريُّ، قاضي البصرة في أواخر عهد المنصور وبواكير عهد المهديِّ، وقدَّم نظريَّة متسامحة فريدة في المعرفة في ذلك الوقت. وللأسف فقد قضى الخصوم على هذه النَّظريَّة، ولم يبقَ منها إلّا ما يذكره هؤلاء في نقدها. وخلاصة رأي أبي الحسن العنبريِّ أنَّ كلَّ مَن اجتهد في الأصول من الإسلاميِّين أصاب من وجهٍ، لأنَّه بذل وسعه واستنزف طاقته في تحصيل الدَّليل، وهذا هو المعنى اللُّغويُّ للاجتهاد. وما دام قد بذل جهده، فقد برئ من تعمُّد الخطأ. والله لا يكلِّف نفساً إلّا وسعَها. أمّا كونه أصاب أو أخطأ في الحكم فتلك مسألةٌ أخرى لا تتعلَّق بالتَّكليف، بل بسلامة المعرفة، وهي قضيَّة إنسانيَّة نسبيَّة. وبالتالي فالمجتهد في تحصيل الدَّليل، أي من بذل غاية ما يستطيع من جهد، ولم يهتدِ إلى نتيجةٍ مقنعةٍ لغيره، فقد أصاب من جهة بذل الوسع، وأخطأ من جهة النَّتيجة المترتِّبة عليه. ولا يحاسبه الله على هذا الخطأ. ومعنى هذا أنَّ القائلين بمختلف العقائد مصيبون من هذه الناحية، إذا كانوا مخلصين في اجتهادهم، وإن لم يوفَّقوا إلى التَّوصُّل إلى رأيٍ يتوافق مع الرَّأي العام. وهذه نظريَّة متسامحة للغاية، حظيتْ لاحقاً بالتَّطوير لدى الجاحظ والناشئ الأكبر وعددٍ من المعتزلة الآخرين. ثمَّ أحياها في العصور الأخيرة الشَّيخ بهاء الدِّين العامليُّ.
أوضح الجاحظ بعد العنبريِّ بأنَّ المعارف تقتضي من الإنسان بذل الوسع، واستنزاف الطاقة. فإذا بذل الإنسان وسعه، سقط عنه التَّكليف. والله لا يحاسب من الكفّار إلا مَن يعرفون الأشياء ويعاندون ويداهنون في معارفهم، بهدف تحقيق مصالحهم الخاصَّة. وبالطَّبع لم يقبل ذوو العقول المتزمِّتة بهذه النَّظريَّة، ووصفوها بمختلف الصِّفات السّلبيَّة. وقد تعرَّض لنقدها ابن قتيبة وابن حزم والماورديّ والغزاليّ وغيرهم. ويتركَّز نقد هؤلاء على أنَّ الحقَّ متعيِّن، والاختلاف في الأصول يوجب اجتماع الأوجه المتناقضة والتقاءَها في وقت واحد.

– مِن كتاب مِعْمار الفِكر المُعتَزليِّ

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *