نصوص عبد الحميد كاظم الصائح ترهن حضورها عبر ثنائية الاستعارة والاحالة، فالأولى هي لعبته في المواربة، والمراغة، والثانية هي مغامرته في التسلل الى ماهو سري ومغيّب في السيرة، والتاريخ، إذ ينزع الشاعر قميص الخطيئة، والنوستالجيا ليبدو- في الكتابة- وكأنه يكتب سيرة أخرى، هي سيرة (الوعي الشقي) ومراجعة الذات لذاكرة مراثيها وخيباتها واسفارها، ولتبدو الاستعارة فيها وكأنها شفرة السيمياء، والمجس البلاغي الذي يمارس فصاحته في تعرية الخسارات والاقنعة..
في كتابه النصوص(الارض اعلاه) الصادر عن دار نينوى/ دمشق يكتب الشاعر نص وجوده، واسئلته، فهو يستحضر عبر هاجس(المفكر فيه) مجالا نسقيا، ينفتح على ماهو مخفي في السيرة، والمنفى، والغياب والحضور، إذ لا يملك الشعر سوى هاجسه اللغوي في الكشف عن مفارقاته الاستعارية لمكاشفة العالم الذي ترك له ركاما فاجعا من الاستعارات والاقنعة المستعملة..
توصيف النص، كمجال استعاري للحفر في الذاكرة، الذاكرة المحشوة بالوقائع والوجوه، والاسماء الغائبة، والتي لايملك الشاعر ازاءها سوى التخفف من اسطرتها وارخنتها لكي يواجهها، وليتعرف على حمولاتها الرمزية والسيمائية، وليحفر في بنيتها العميقة بحثا عن تفاصيل وشروخ هي الارهاص الدامي لسيرة الخيبة الذي عاش تحولاتها الصاخبة.
عنوان الكتاب الشعري له بعد صياغي، واحالي أيضا، فبقدر استعارته من خطاب المراسلات، حيث استدعاء فعل الاشارة والتوضيح والبحث عن مايستدعي المعنى، فإنه يُحيل الى شغف تتبع ماتستدعيه البنية الاسمية لجملة»الارض اعلاه»، عبر تحفيز فاعلية الحفر في الذاكرة والتاريخ والسيرة والمكان، وهي أنموذج لكتابة لاتقوم على تحييد خطابها، بل بالانحياز الى عتبة الرؤيا، ليس بوصفها التناصي، بل بفعلها العالي الانزياح، والذي يستغرق فيه الشاعر عوالم الغياب، والتأويل، وكل يمكن ادراكه عبر شفرات الاستعارة التي تحتشد بها قصائد الكتاب…
أميّزُ..لا أميّزُ بيني ؛ وماتركوا من وصايا،
بينَ موعدٍ/ ربما نلتقي،
وبينَ بلادٍ يحركها اللاجئونَ على عجلاتْ،
بينَ مقابرِ (سوق الشيوخ) ؛ التي أبدلْتُها بجنّاتٍ ميّتةٍ؛ وآلهةٍ عاطلينْ،
وبيَن أسرّةٍ خارجَ البيوتْ
وتظاهراتٍ مهددةٍ بقنابلِ الشهوةْ،
بين المعمّمينَ الذينَ هَجَروا دماءَ الأئمّة، وساحوا الى الرّومانْ
وغناء( سيد حمدان)، الذي ظلّ ريقُهُ ناشفاً كَدَمِهْ
وصوتُهُ ليّناً بينَ الحشائشْ..
هذه الثنائيات تستدل بالمفارقة، وبالتقاطع الاستعاري، لتؤسس ل(نصها) حساسية شعرية تلتقط مايهجس في الذاكرة، وفي المكان، وفي شفرات الغائب، حيث يستدعيها الشاعر ليستأنف الوجود عبرها، وليجعل من شفراتها أكثر تعبيرا عن المفارقات التي عاش تحولاتها الشاعر، ف»البلاد» و»المقابر» و»التظاهرات» و»المعممين» و»سيد حمدان» تكتسب بعدها الدلالي من خلال حضورها المفارق في سياق الاحالة الشعرية، وكأن الشاعر لم يجد سوى هذا البعد الاستعاري لمواجهة عري الواقع، أو ما لجرى في المابعد ل(الارض اعلاه)
كلّما أبحرتُ عدتُ إلى سريري،
وإنَّ البلادَ طعنةٌ في الظَهْرْ
والأطباءَ حرائق.
وكيفَ أُعيدُ ساعاتِهم الّتي تدورْ،
بعد أن كُفِّنوا باللافتاتْ
بلاغة الصورة، وتقانة التركيب، هي مهارة الشاعر في التعبير عن رؤيته الشعرية، إذ تتحول هذه الرؤية الى لعبة اركيولوجية، مثلما هي لعبة تقنية يتوسع عبرها المتن الشعري، في بعديه الاستعاري والاحالي، والتي تتبدى أكثر وضوحا في بنية المفارقة، وفي تشظي البنية النحوية للجملة الشعرية، احالات عميقة ثاوية في اللاوعي الشعري، وفي سياق التمثيل الثقافي للجملة النحوية، والذي يفترض تحفيزا للبحث عن المضمر والغائب، أو عن الفكرة التي تحولها الاستعارة من فعل لساني الى خطاب، له فضاؤه التعبيري، وله شغفه العلامي.
تسمية ال(نصوص) كعنوان فرعي كما ورد في مقدمة الكتاب الشعري، هي لعبة للقراءة، ولاجتراح حمولة تعبيرية وسيميائية، تحمل معها تسويغا للابانة عن ما تُحيل اليه الاستعارات من اشارات، أو من معانٍ خبيئة، والتي حاول الشاعر من خلالها الافصاح عن رؤيته، أو عن وعيه الحاد للزمن الثقافي الملتبس باقنعته السياسية والنفسية، وبموارباته التي تُخبّىء خلفها نفسا لجوجة، خائبة، مفجوعة، وما عاد له سوى توصيف العالم والتاريخ والوجوه والاحداث عبر اللغة، وعبر ما تبيجه الشعرية من طاقة استعارية مفتوحة، قد لاتعني استدعاء واضحا لفكرة النص المفتوح، بقدر ماتعني استدعاء الرؤية المفتوحة، التي تستدعي معها التفاصيل والذاكرة والسيرة عبر لحظاتها الفارقة، أوعبر تمثيلها الاستعاري وليس الواقعي والتاريخي.
الخروج من هذيان اللغة الى كثافة الواقع.
الشاعر الصائح يُعني كثيرا بتصميم نصه الشعري، عبر تقانة بنائية تتجوهر في التكثيف، إذ تتحول هذه الكثافة الى موجّه له أثره في التمثيل الشعري، وفي حركة الاستعارة، وفي ضبط الاحالة المفارقة الى الواقع، فالمكان يفقد عموميته ليبدو مكانا له خصوصيته»المكثفة» النفسية والاحالية- العراق/ الناصرية/ سوق الشيوخ، الزمن يخرج من كورنولوجيته ليبدو وكأنه زمنٌ نفسي مكثف، أو حتى زمنٌ لغوي ترهنه الكثافة الى التحول الاستعاري، والاسماء ببعدها الايقوني تحضر بوصفها فعلا اشباعيا، وشعريا، فالشاعر يصطنع عبر اسماء» كمال سبتي، نصيف الناصري، رياض ابراهيم، في الغربة، مثلما يستدعي اسماء» رشيد مجيد، جبار جبر، واثق فالح، جاسم محمد عليوي، سمير هامش» في الذاكرة، وليصطنع عبرهم حياة مجاورة، حياة تتأنسن تتخلص من هذيان اللغة عبر التكثيف الاستعاري للواقع.
أحسب أن نص» ناس من الناصرية» يؤشر مدى حساسية الشاعر وحسيته إزاء هذه اللعبة، فهو يهجس عبرها برغبة لاذعة، وبلغة متدفقة، لكنها موجزة وموحية، تلامس سرائر الحياة والغياب والحرب والخوف من خلال تلمّس حيواتها المُقنّعة بأسمائها، والدالة على ماهو غائب في سيرة الشاعر..
ثنائية الغياب والحضور تمثل بنية مفتوحة لاغلب نصوص هذا الكتاب الشعري، إذ ينخرط الشاعر فيها مغامرا، وباحثا، مسكونا بوجعٍ من يبحث عن ذاته، عبر استدعاء التفاصيل، وعبر استدعاء الذاكرة، والزمن، وعبر مفاصحة استعارية مع واقع ضاج بالهذيانات الوطنية، وبأسئلة التائهين، والمشغولين بفكرة الحياة ذاتها، إذ يضعنا الشاعر كقراء أمام مفارقات لعبته، تلك تشتبك بها اسئلة خبرته في بكتابة المزاج الشعري، مع رؤيته التي تعرّت فيها اللغة عن كثيرٍ من الاقنعة، والمجازات الزائدة، ولتبدو اغلب النصوص وكأنها لكتابة شعرية الخلاص والتطهير، تلك التي يستدعي من خلالها الشاعر العالم والذاكرة والتاريخ لينزع عنهم اقنعة الرمل، واوهام المنفى واعطاب السيرة.