في ثمانينات و تسعينات القرن الماضي ، كنت اسكن وحدي في حي الخليج ، وازور اهلي في حي الصحة عند العشاء تلبية لالحاح والدتي ..في احد الايام ، كانت ولدتي قد ذهبت لزيارة النجف و كربلاء ، و عندما وصلت الدار ، كان على الباب رجل اعرفه من ذوي الدخل المحدود، و يعيشون ظروف الضنك الصعبة ..بعد السلام ، قال لي : ان امه ارسلته لياخذ دفنة جدته، لانها توفت قبل نصف ساعة ..دخلت الدار ، سالت اخواتي ، هل يعرفن مكان امانة دفنة ، بحثنا ، فلم نجد اي شيء في خزنة الوالدة .. اعطيته ما في محفظتي و ما في الدار لحين عودة الوالدة ..في اليوم التالي ، وبعد عودة والدتي، سالتها عن الامانة ، فلم تجبني ، اخذت ما دفعته بدل عنها ، و ايقنت انها كانت تدفع لهم دون ان تسترد ما تدفع ، وعندما سالتها عن السبب ، قالت من فك ضائقة ابن ادم ، او سعى في حاجته ، فك الله ضائقته و قضى حاجته ، وفتح له ابواب الجنة …
كانت صديقتي همسة فلسطينية الاصل ، امريكية الجنسية تقول : ان ادم تزوج رحماء ، لان حواء اسم امنا هو مختلق من التوراة اليهودية الموضوعة ، و قصة خلقها من ضلع ادم اكذوبة ، بل خلقها من طين معطر بعطر الجنة و ماء الرحمة ..
عندما تحدثت بدون قصد ، بسوء عن سيدة تبرعت لطالبة بسفرها وعلاجها بالهند في احد مقالاتي، و كتبت لي رسالة شديدة القسوة و التجريح ، ذهبت اليها ، و لاقل من نصف معها كنت في بيتها ، نصف الوقت تشكي باكية همها و حالها، و نصف الوقت الاخر، بعد ان راتني جئت لها معتذرا” ، تحدثت لي محذرة و خائفة علي من ما اكتب ، و قالت لي نصيحة لا انساها : ( لا تفضح للناس سرا” ربك ساتره)..
قبل سنتين ، عندما التقيت سيدة متقاعدة في دارها على جلسة شاي و كليجة عراقية ،وكانت قد طلبت لقائي بواسطة بنت اختها ، قالت : “بعد ان تحدثت عن هجرة و لديها و بنتها و تطلب مني اعادتهم ، لانها تريد ان يدفنوها ابنائها و يستثبون عليها ” ، اذكر الله في كل حين، ليحميك و يستر عليك من غدر الظالمين، و كيد الفاسدين ..بكيت عليها ، لانها رحلت الى جوار ربها دون ان احس بها ، فقد كانت ترسل لي في كل يوم دعاء حفظ و استعاذة من شرور الاشرار، ولم انتبه الى انقطاع الادعية لاسال عنها … في حياتي كثير من النساء ، فقد كنت في قسم العمارة و البيئة في مجلس البحث العلمي بين عديد من المعماريات العراقيات البارعات ، و خرجت الاف من الطالبات من كلية الهندسة و العشرات من الماجستير و الدكتوراه لاكثر من ربع قرن ،و رغم تنقلي بين العواصم و المدن الاوربية و الولايات الامريكية، الا اني لم اجد مثل العراقية ، لا شكلا فحسب، بل الاحساس المتدفق بالكلمة و الضحكة و الحياء و كنت اقول ما ورثنا من القول ( الحلاوة بالدم ) ، حتى اني في الصغر كنت اظن ان تركيبة دم العراقية يختلف عن الرجل..
وعندما كتبت مقالة ( حتى العاهرات في بلدي شريفات ) ، عاتبني صديق، شيخ من رجال الدين ..فقد ذكرت حادثة ، عندما كانت القوادة المشهورة ( حسنة ملص) لوحدها في سيارة اجرة ( فورد) من ساحة النصر الى باب المعظم ، رفضت ان يصعد اثنين من الرجال معها كانوا في الطريق و اشرو للسائق ، و دفعت الاجرة عنهما ، و عندما سالها السائق عن السبب في دفعها اجرة لرجلين لم يصعدا ، قالت: واحد سيد ، والثاني من بيت شيخ گمر ، و ما اريد الناس اتظن بهم سوء ، لاني معروفة بالميدان و بغداد…في مصر في 2008 ، كنت اسكن في شقة مفروشة في شارع الهرم قرب مسرح الزعيم ، وكنت انوي شراء شقة في ال ٦ اكتوبر او الشيخ زايد..طلبت من البواب ان يحضر لي شغالة تجيد الطبخ المصري ، سالني عن العمر ، قلت لا احبذ ان تخدمني سيدات كبيرة ، سالني : هل تريدها شغالة ، طالبة ، معلمة ، موظفة ، ست بيت ووو، لان كل وحدة لها ثمن..
قلت له : اريد شغالة تجيد الاكلات المصرية و تنظف الشقة ..قال : ترقص ، و تدلع ..متزوجة ام بنت بنوت ، كل وحدة لها ثمن …فهمت منه ان البواب سمسار اعراض كما هو حال معظم البوابين هناك ..قلت له : عاوز شغالة متعلمة شريفة ، قال لي : ده غالية ..قلت : هاتها و نتحاسب .. عندما رجعت و جدت فتاة شابه تحمل كيس ..اتفقنا على اجرة اليوم ، لاني لا احتاج لتنظيفها يوميا” ، بل يوم او يومين اسبوعيا ، و اتفقنا على ٧٥ جنية في اليوم …فتحت لها الشقة ، و تركتها ، و ذهبت الى السوق لا تسوق الخضار والفواكه و اللحوم و العيش و الفول ..عندما رجعت ، و جدت الشغالة ( عيشة ) ، بملابس نوم ، و مكياج مبالغ فيه ، بالرغم انها مرتبة الشقة بشكل جيد ، طلبت منها ان تغير ملابسها و تعود الى ملابسها المحتشمة و تمسح المكياج ..استغربت من تصرفي ، وقالت لي انها سليمة و غير مصابة باي مرض..قلت لها: تعلمت ان كل شيء دين ، و مثلما تفعل ، يفعل بك..
ذهبت عيشة ولم تعد ، و للامانة بكت لانها احست بالاهانة ، و يقيني انها مجبرة او من عوز…و في اليوم التالي عندما التقيت البواب ، قال لي : استاذ اعرف دكتور ، عيادته قريبة ، يخليك تعرف ، و زي الحصان …بالرغم اني كلمته بقسوة وحدة ، الا اني عندما رجعت ضحكت على كلمة ( ما تعرفش)…
في بروكسل ، عندما سالني صديق سوري ، لماذا لا يعجني صداقة الاوربيات و الامريكيات ، و مغرم بالعراقيات ..قلت له : الاوربية ورد صناعي ، والعراقية ورد رباني طبيعي ..استغرب من كلامي ، و صدمته عندما قلت له : كل العراقيات جميلات ، و كل عراقية ..امراة ..راقية ..
للعراقيات و للعراق رب الخير و الجمال ..
رب النور و النعمة و الرحمة و الحلال..
أ.د.ضياء واجد المهندس
مجلس الخبراء العراقي