منذ ان قدمت الى هنا وهذا الرجل ينوء بحمل ثقيل ؛ لا احد يعرف مدخرات هذا الكيس ..قمامة يجمعها حتى لايستطيع ان يقوم على قدمين واثقتين وبعمود فقاري سليم .وقلب اكثر سلامة ايضا ،ونحن نسير الهوينى الى جواره بالسيارة عرضنا عليه أن نوصله الى حيث يرد : يخلف عليك ياحاج بديش ..
لايبدو ان النقاش معه مجد فقد قرر ان يمضي حتى آخر المشوار المجهول ..لقد رفض عروضا كثيرة تبذل له بحسن نية خالصة ؛ لكنه يريد ان يعذب نفسه على ما اقترفه بحق عياله الذين خلفهم ولم يستطع سداد قوت يومهم.
لن يجيب لو سألته عن طبيعة حمولته التي ينوء بها ظهره ؟
ولن يرضا لو أنك عرضت عليه اي مبلغ (تحسبهم اغنياء من التعفف )، هذا الرجل الذي مايزال هو هو مذ التقيته هنا قبل ستة عشر عاما.. الفارق ان ذقنه كان اسودا ثم استحال من رمادي الى ابيض ؛ وهو يؤدي هذه الحركة الايقاعية ذاتها .
هو جزء من سينوغرافيا حركة الشارع يقول لي احد رواد المسرح المستحيل ضحكت للعبارة وتذكرت حين كنت مدعوا لحفل افتتاح منتجع لمستثمر عراقي في بيرين في محافظة الزرقاء الاردنية .ان بين فريق التشريفات في الحفل بنات طويلات بشعر اطول وبزة سوداء يجلن بين الجالسين ولا وظيفة لهن سوى اكمال سينوغرافيا المشهد..
السينوغرافيا ، تعني كل الأدوات التي تهدف إلى إعطاء وهم فراغي حيث يحدث فيها العمل الدرامي. لطالما ارتبط تطور السينوغرافيا المسرحية ارتباطًا وثيقًا بمشكلة اظهار المكان لأنه يهدف إلى إعادة إنشاء صورة معمارية ثلاثية أبعاد ، وبالتالي صورة مزودة بالعمق..
امرأة تبيع البقدونس امام سلسلة محال تجارية تضرب قوسا عظيما في اشهر دواوير عمان ؛ يمكنها ان تضع كدسا من الباقات تحت رأسها ثم تغط في نوم عميق غير آبهة بنذر الشتاء ونوازله . تلك ايضا ضمن سينوغرافيا الشارع . وايضا رجل بحطة (يشماغ ) وعقال وربطة عنق وعكازين يحملان جسدا نحيلا يقطع الشارع ويلزم جميع المركبات بالابطاء حتى يبلغ بر الامان على الرصيف المقابل ..
يمر الرجل الذي ينوء بحمل يفوق ماتحمله نملة اضعاف اضعاف جسدها من حبة حنطة فيتذكر صاحبي المسرحي سيزيف ونحن نخرج من عرض في المسرح الملكي : سيزيف سيزيف،وبطريقة مسرحية تذكرنا بصوت الراحل عز الدين طابو يشرح :
(تحكي الأسطورة الإغريقية أن سيزيف كان رجلا ذكيا وماكرا جدا، استطاع أن يخدع إله الموت “ثانتوس” حين طلب منه أن يجرب الأصفاد والأقفال، وما إن جربها إله الموت حتى قام سيزيف بتكبيله، وحين كبل سيزيف إله الموت منع بذلك الناس أن تموت).
لو إني قررت ان اخرج مسرحية تنتمي الى مسرح الشارع لاتيت بهذا الذي يحمل الكيس كصخرة ثم يكمل ونحن نضحك :
(أغضب هذا الأمر الآلهة الأوليمبية فأصدروا عليه حكما بأن يعيش حياة أبدية على أن يقضي سيزيف هذه الأزلية في عمل غير مجدٍ، ألا وهو دحرجة صخرة صعودًا إلى جبل حتى تعود للتدحرج نزولا من جديد، مرارا وتكرارا، وبلا نهاية ).
هل يشعرحامل الكيس حقا بانه قد ارتكب شيئا يجعله يستعذب هذه الحياة القاسية ؟
ماتزال الحياة تسري بعمان التي صارت تنتمي الى مدن الليل بجدارة !
اووف انتهى النص القيت عن كاهل نفسي عبئا ثقيلا!