ليست الديمقراطية افضل نظام سياسي ابتدعته البشرية بصورة مطلقة. لكنها بالتأكيد افضل اليه لحسم الصراع والتنافس على السلطة في المجتمع. وهو صراع قديم ظهر مع ظهور السلطة حتى في اشكالها البدائية في المجتمعات البشرية، وهو موجود حتى في مجتمعات القردة العليا.
جربت البشرية وسائل مختلفة لحسم الصراع على السلطة، منها الحرب (كما فعل ابنا هارون الرشيد، الامين والمأمون)، او الحرب الاهلية (كما حصل في بريطانيا في (1642-1646) و (1648-1649)، او الثورة ( كما حصل في فرنسا ١٧٨٩ وروسيا ١٩١٧ وايران ١٩٧٨).
ثم بدأت البشرية تجرب الديمقراطية بعد غياب طويل منذ سقوط الديمقراطية الاثينية قبل ذلك بحوالي الف سنة، واندثار الديمقراطية المجلسية assembly democracy في دويلات وادي الرافدين قبل ذلك بعدة الاف من السنين، واجهاض فكرة الشورى في المجتمع الاسلامي على يد الملك الاموي معاوية بن ابي سفيان.
اعتبارا من اجتماع مدينة ليون الاسبانية في عام ١١٨٨ في عهد الملك الفونس التاسع بدأت البشرية بالتعرف على فوائد الديمقراطية التمثيلية. وكان سكان ايسلندا قد تعرفوا الى الصيغة البرلمانية البدائية في عام 930 حيث انعقد أول برلمان وطني في ذلك البلد الى ان ظهر المفهوم الحديث للحكومة البرلمانية في مملكة إنجلترا (1688).
خلال هذه الفترة الطويلة تعلمت البشرية ان الديمقراطية نظام سياسي يحتوي على حسنات اكثر من السيئات، وانها صيغة تراكمية تتطور مع الزمن، وانها تستطيع معالجة نواقصها وسيئاتها بمرور الزمن.
دخل العراق بعد عام ٢٠٠٣ في تجربة جديدة للديمقراطية تحت اشراف الولايات المتحدة التي اسقطت النظام البعثي عن طريق الحرب. وتولت السلطةَ احزابٌ لا عهد او تجربة سابقة لها في الديمقراطية. وسرعان ما حصل الانحراف في التجربة الديمقراطية بعد ان اتضح ان الاحزاب الحاكمة لا تميز بين النظام البرلماني والنظام المجلسي، وانها خلطت بين الديمقراطية التوافقية والديمقراطية التمثيلية، فانتهى الامر بها الى تشويه عميق للديمقراطية جعل بعض الناس ينفرون من الديمقراطية ذاتها.
وكان امام هذه الاحزاب فرصٌ كثيرة لتعديل المسار الديمقراطي، وتعميق الديمقراطية، ومعالجة عيوب التأسيس ، لكن هذا لم يحصل لاسباب قد نعزو بعضها الى قلة الفهم، فيما نعزو القسم الاخر الى عدم الايمان بالديمقراطية.
وكان الخلاف حول منصب رئيس الوزراء الذي حدث بين الاحزاب “الشيعية” بعد انتخابات عام ٢٠٢١ فرصة تاريخية لتصحيح المسار الديمقراطي من قبل هذه الاحزاب والسعي الى حل هذا النزاع بطريقة ديمقراطية تعمقها نظريةً وممارسةً.
لست بصدد الحديث عن نظام الطائفية السياسية المطبق عندنا والذي يقضي بان يكون منصب رئيس الوزراء من حصة الشيعة. فهذا امر اخر، لكني اقول انه حتى ضمن هذا النظام فانه بالامكان حل التنافس بين الاحزاب الشيعية بطريقة ديمقراطية بالحد الادنى لو كانت هذه الاحزاب تتبنى بصدق الديمقراطية.
ومع الفارق الحضاري والزمني الكبير بين التجربة “الديمقراطية” الهشة في العراق، والنظام البرلماني العريق في بريطانيا، فانه من المفيد دراسة الحالات المماثلة في بريطانيا لاستخلاص الدروس الديمقراطية منها.
اضطر رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الى الاستقالة بعد ان تصاعدت المعارضة له داخل الحزب الحاكم، اي حزب المحافظين. ولما كان منصب رئاسة الحكومة وكذلك المناصب الوزارية من حصة حزب المحافظين، (وهم لا يطبقون مبدأ الاستحقاق الانتخابي بمعنى مشاركة كل الاحزاب في الحكومة المطبق في العراق)، فقد كان على حزب المحافظين ان يحل مسألة خلافة جونسون داخل الحزب بطريقة ديمقراطية شفافة. وهذا ما حصل. فقد تم فتح باب الترشيح، ورشح عدد من الاشخاص انفسهم علنا. وانطلقت بعد ذلك عمليات تصفية عن طريق التصويت العلني للوصول الى عدد ٢ من المرشحين يتم اختيار احدهم في اخر مرحلة بالتصويت.
ماذا لو فتح الاطار التنسيقي منفردا (او ربما مع التيار الصدري)، باب الترشيح للمنصب، ثم يجري التصويت التسقيطي عليهم داخل النواب الشيعة بوصفهم “الهيئة البرلمانية” للمكون الشيعي حسب مصطلحات نظام المحاصصة التوافقية سيء السمعة والاداء.