لطالما كنتُ مكان المُشاهِدِ الدائم والبعيد على الحياة ومُجرياتها، على ما يعيشه الآخرين وكيف يعيشونه، لم أكن أجرؤ يومًا على تغيير مكاني أو حتى على التفكير بذلك الأمر لأنني عندما أقدمتُ على محاولاتٍ بسيطة رُفِضت، وكم هو قاسٍ شعور الرفضِ عندما يأتي بسبب شيءٍ لا طاقة لك عليه ولا حتى إرادة به، بسبب شيءٍ كُتبَ عليك وانتهى الأمر وعليك أن تتقبله وتعيشه بكل صعابه ومآسيه!

كثيرة الخوف والتردد، وحيدة دومًا ومختلفة!

كل ذلك كان دافعًا قويًّا لاتخاذ مكاني بامتِياز، كانت الحياة تمر من أمامي بسلاسة تامَّة ولكنها لم تكن تخصني، السعادة والثقة بالنفس والتقبُّل والحب، كل ذلك لم يكن لي، حياتي كانت عكس ذلك تمامًا، كنتُ أهرب من ظلامِها لِأقف أمام نافذةٍ مغلقة وأراقب من خلفها حياتهم، لأرى كيف يعيشون وكيف يتآلفون ويحبون بعضهم البعض.

كانوا مُتكاملين من وجهة نظر مُشاهِد بعيد، وكنتُ الشخص الناقص والفائض عن الوجود في تلك اللوحة!

كانت الوحدة تلفني وتُحكِم قبضتها عليّ، وكانت تصرفاتهم تدعم وتُحكِم إغلاق القبضة.

بكيتُ كثيرًا حدَّ أني وصلتُ لفكرة أني مجردُ جسدٍ مختلِفٍ خُلِقًَ لِيُغيِّرُ نمط أشكالِ الأجساد المتشابهة التي ترمقني دومًا بنظرةٍ تقول: لا مكان لكِ بيننا، اذهبي إلى نافذتك البعيدة!

أخبرتهم مِرارًا بأني لم أرغب أن أولَدَ بجسدٍ ضعيفٍ وحركةٍ بطيئةٍ وتوازنٍ شبه مُعدَمٍ حدَّ حاجتي الدائمة لِيدٍ تُمسكُ يدي أثناء السير خارجَ نِطاق البيت الذي اعتدتُ المشي فيه بسبب نقصٍ حادٍّ بالأوكسيجين تسبَّب في موت الكثير من الخلايا الحركية لدي، لم أرغب أيضا بمرافقةِ صخرةٍ ناتئةٍ في ظهري تُعطي جسدي ملامح عجوزٍ هرِمة، ولم أتفق مع طبيبٍ على أن يُخطئ في تشخيص تمزُقِ الأربطة في ركبتي اليُسرى لِتتحول مع مرورِ الزمن والسقوط المُتتابعِ والصرخات الممتدةِ سنينًا من المعاناة إلى خلعٍ في غضاريف الركبتَين الاثنتين مما جعل من مشيتي كبطريقٍ سمينٍ ثقيل الحركة!

لم أرغب بذلك أبدًا حتى تنبذوني وتتجاهلوني وتتهموني بالحماقة وبانعدام العقلِ والجنون!

عندما أصبحتُ في المرحلة الإعدادية كانت السنة الأولى التي أذهب بها إلى سوريا، كانت فرحتي كبيرةً جدًّا ولكنَّ خوفي كان أكبر وأعمق لأني كنت سأبدأ من الصفر رحلة جعلِ الآخرين يتقبلون وجودي، لم يكن هناك طريقة سِوى إثباتِ نفسي بذكائي وتقدُّمي الدراسي، وكان ذلك سهلًا بالنسبة لي.

لم يكن حينها هناك أيُّ أثرٍ لانحناء ظهري، كنتُ طبيعية جدًّا بالنسبة لِما أنا عليه اليوم، فقط ضعف في العضلات وسقوطٌ مفاجئ يترافق مع صراخٍ مُدوِّي بسبب ركبتي مع انعِدام التوازن.

سُجِّلتُ في مدرسةٍ مُختلطةٍ أنا وأختي وقبل أن تبدأ السنة الدراسية قالت لي أمي: لا تشغلي بالكِ بأحد، ولا تغضبي إن تمَّ رفضكِ من أحد الطلاب، أو إن تمت إهانتكِ أو السخرية منكِ، تجاهلي كل ذلك وركزي على هدفك فقط وهذه أختك برفقتك لا تخافي لن تكوني لوحدك، بإمكانك جذب اهتمامهم بتفوقك وحينها سيعرف الجميع مياس المتفوقة والذكية ويحب مُصادقتها.صدَّقتُ أمي وعزمتُ على تجاهل ما يُزعجني منهم، ولكن لم يكن التطبيق سهلًا أبدًا!

كنتُ في كل يومٍ أعود للبيتِ مُنكسِرة ومهزومة، كنتُ كثيرة البكاء، في داخلي خوفٌ عميقٌ من أن أبقى وحيدة.

كانت الفتياتُ كلَّما تجمَّعنَ معًا أنضمُّ إليهنَّ فيُجامِلنَني دقائق معدودة وينفضون من حولي لِأجد نفسي فجأةً لوحدي!

أعود في اليوم التالي وبنيَّةٍ صافية بأنهنَّ لم يكنَّ يقصدنَ بالأمس وبأني لم أحاول اللحاق بهنَّ حيث ذهبن ليُكملنَ حديثهنَّ المهم، ليُعاوِدنَ نفس الكرَّة.بعد عِدَّةِ محاولات قررت أن أتوقف، صرتُ أجلسُ وأُخربِشُ على الورق أو أسندُ رأسي على المقعَد مُتظاهرةً بأني أغفو، في الحقيقة كنتُ أبكي لِوحدي، وصار الأولاد من صفي يُشفِقون عليّ.

ذات نهار كان الجميع في الاستراحة بالباحة وأنا كالعادةِ في الصف وحيدة أسند رأسي على ذراعيَّ على المقعد وإذ بصوتٍ ينادي باسمي: مياس!

لماذا تجلسين وحيدة؟

رفعتُ رأسي لأجد أحد طلابِ الصف.

ابتسمتُ ببلاهة وأجبت: لأني أحب أن أبقى لوحدي! لم تكن لديَّ إجابة مُقنعة أكثر من هذه، ولم أكن أرغب أن يرى أحدهم انكساري.

أجاب: ونحن نُحبُّ أن تأتي وتشاهدينا كيف نلعب وإن أردتِ بإمكانك اللعب.كِدتُ أطير من الفرحة لأنَّ أحدهم تذكرني وبنفس اللحظة كنتُ مترددة وخائفة من أن يكون هناك فخٌّ للسخرية مني، حيث كان من عادة الأولاد المشاغبين فعل ذلك!

قال: لا تخافي، لن يؤذيكِ أحد، تعالي وانضمي إلينا من هنا بدأت الحياة تبتسم لي قليلًا فعلى الأقل صار لديَّ أصدقاء!

مضت السنة الأولى بسلام، بالإضافة لِنجاحي تمكنتُ من الحصول على أصدقاء ولو أنَّ جميعهم كانوا ذكورًا وأنا الفتاة الوحيدة بينهم، لكنَّ شعوري من أنَّ هناك من تقبَّل وجودي بمحبة كان أكبر إنجازٍ وأحبَّ جائزةٍ قد تُقدَّم لي.

مع بداية العام الجديد كانت لي بداية أخرى ومختلفة تماما، كانت مزعِجة ومُرهِقة بالنسبة لي، كنتُ أشعر بالخجلِ الشديد من نفسي وباليأس والخوف الذي يهتز داخل أضلعي من الوضع الجديد الذي فرض نفسه وبقوةٍ على أن يصبح جزءً مني، ومن أن أخسر الأصدقاء الذين حصلتُ عليهم العام الفائت.

كان الجميع في المدرسة قد لاحظ التغيرات التي طرأت عليّ، بدأ ظهري ينحني وبالتالي بدأت قامتي تقصُر، بدأتُ أتحول لِكائنٍ غريب، هكذا كنتُ أفكر!حاولتُ الاختفاء عن الأنظار لكن أمي وأبي وأختي لم يوافق أحدٌ على أن أهدِم أحلامي في الدراسة لهذا السبب!

جميعهم قرر: عليكِ المُواجهة!

وأنا قررت: سأبقى بعيدة عن الجميع، سأبقى المُتفرجة على حياتهم من نافذة مغلقة حتى لا ينتبه عليّ أحد، سأنغلِقُ على نفسي كما ينغلِق ذاك الانحناء لِيُطبق على صدري!

“عن أيِّ مواجهةٍ يتحدثون وأنا اليائسة هناك هي من سيُواجه!”

عانيتُ في البداية كثيرًا على الأقل حتى اعتاد طلاب صفي مظهري الجديد واختفت علامات التعجُّبِ من وجوههم.

لازالت الفتيات يتهرَّبن مني ويكرهن وجودي بينهن، وبالمقابل حافظ الأولاد على رغبتهم بأن أبقى صديقتهم.كنت مصممة على البقاء وحدي لذلك رفضتُ دعواتهم للانضمام إليهم، لكنهم ولِصدقهم لم تُرهِقهم كثرة المحاولات حتى وافقتهم وأخيرا بعد أن فتكت بي الوحدة، وأتعبني الشعور بالحاجة إلى الرفقة.اعتادوا عليَّ كما أنا واعتدتُ عليهم، كنتُ سعيدة حقا ومليئة بالأمل والتفاؤل، المشاركة والصدق في التعامل مع الأشخاص هِبتان كبيرتان من الله تعالى لا يشعر بهما إلا من عاش الرفض والوحدة.مضت الأيام مليئة بالأحداث والذكريات الجميلة التي أراها الآن أجمل ذكريات عشتها بحياتي كلها.تخرجتُ من المرحلة الإعدادية وانتقلتُ للثانوية وهناك كان كلُّ شيء مختلفًا ومثيرا للخوف والدهشة، هناك كنتُ حقا لوحدي تدهورَت حالتي النفسية للعدم، وتراجع مستواي الدراسي بشكلٍ كبير، صرتُ أفكر لو أنَ الله خلقني صبيًّا أما كنتُ الآن مع أصدقائي الذين اعتدتُ عليهم واعتادوا علي؟

لو أنَّ الله خلقني صبيًّا أما كانت حياتي أسهل؟

لم أكن أمتلك الوعي الكامل بأن لله حكمة لكل شيءٍ يخلقه، لم أكن أستوعب فكرة أن الله خلقني قوية وعليَّ البحث عن مكمنِ قوَّتي، لم أكن أعلم أن ذاك المكان المظلم الذي كنتُ فيه وحيدةً منبوذة حتى من المدرِّسات هذه المرة، سيكون السبب لاكتشافي لِمكمنِ قوتي وسرِّ أملي وتفاؤلي.

هناك خطَطتُ أولى حروفي وقررت أنَّ رفيقي سيكون “القلم”!

هناك أفرغتُ كل غضبي ورفضي على الورق في اللحظات التي كان الجميع يُدير لي ظهره وقررتُ ألا أهتم أو أكترث لأحدٍ ما دمتُ أمسك بين أصابعي البطيئة والمتردِّدةِ قلمًا!

هناك اكتشفتُ الجمال بداخلي عبر الحروف والكلمات، وتذوقت لذة الانتصار على وِحدتي وظلامي!

هناك قررتُ بأني سأكون كاتبة!

وهناك علمتُ أنَّ وجودي بذاك المكان رغم تدهور دراستي وحالتي النفسية فيه ما كان عبثًا.

بالمناسبة، لا زلتُ بذاتِ الوضع الصحي وصاحبة ذات تلك النظرات والاعتقادات المتخلفة، وأصبحتُ أُفَضِّل أن أكون لوحدي ربما لأنني اعتدتُ ذلك حقا فأنا قليلة الانخراط مع الناس، فاشلة بفتح بابٍ لأي حديثٍ مع أي أحد “باستثناء أفراد عائلتي وأخصُّ منهم أمي”، حساسة جدًّا تجاه ما قد يفكر به الآخرين عني. أعلم تمامًا أن من يعرف الكاتبة مياس على وسائل التواصل الاجتماعي لن يعرفها شخصيا وقد يرفضها البعض حتى.كل ذلك لا يهم لأنني خُلِقتُ محارِبة وعلى المحارب أن يكون شجاعًا لا يهتم إلا بكيفية الانتصار في معركته، وأنا معاركي كثيرة وحلمي بالانتصار والتقدم بتحقيق آمالي أكبر من أن أهتم بسواها.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *