تجاوزت الدراسات المستقبلية (Futur Studise) في دول الشمال أو الدول المتقدمة صناعياً مرحلة التنظير لهذا الحقل المعرفي واكتشاف مناهجه والتعريف به والحديث عن أهميته وضرورته، لأنها مارسته ـ منذ نهايات القرن التاسع عشر الميلادي ـ كآلية لاقتحام المجهول القادم، ووقفت عملياً على خطورة إغفاله، ولم تكتف بإقراره مادة تعليمية في الثانويات والجامعات، وبتخصيص مئات المؤسسات البحثية لاستخدامه في التحكم والسيطرة المستقبلية، بل حوّلته إلى رأي عام وثقافة اجتماعية يتشبّع بها الفرد والأسرة، ويتشبّع بها المجتمع بكل ألوانه واختصاصاته، سياسية كانت أم اقتصادية أم فكرية أم مدنية، فضلاً عن الدولة وأجهزتها.
وباتت معظم الدراسات الستراتيجية والخطط الحكومية في البلدان الغربية تضع دعائمها على النتائج التي تخلص إليها الدراسات المستقبلية، حتى باتوا يحسون أنه يعيشون المستقبل.
ولا نبغي هنا عقد مقارنة بين الحقائق التي ميّزت عالم الشمال بتبنّيه خيار المستقبل، وبين واقع الدراسات المستقبلية في بلداننا العالم ثالثية أو الجنوبية أو الإسلامية أو العربية، بالنظر للتباين الشديد في نوعية المراحل التي يعيشها العالمان، ولا سيما بعد أن تنبّه جزء من عالمنا إلى حقائق واقعه الصعب، وضرورة الإنتقال الى خيار العصر، وأهمية اقتحامه والعيش في صميمه. وهي خطوة متقدمة بحد ذاتها، وفيها الكثير من الواقعية التي تُحتم الإنتقال من الماضي أو التاريخ، إلى الحاضر أو العصر، ثم إلى المستقبل، دون حرق لمراحل التقدم والنماء والتطور التراكمي، وهي أيضاً المعادلة التي سبق أن أذعن إليها الغرب في العقود الأولى من القرن العشرين، إذ كان العالم المتقدم ينفض يديه حينها من خيار العصر، بعد أن عاش في صميمه عقوداً طويلة، وبات يفكر بالخروج من قمقم العصر ليتّجه نحو المستقبل اتجاهاً علمياً يضمن من خلاله المحافظة على إنجازات العصر، وتحويلها إلى مولدات لإنتاج طاقة اقتحام المستقبل، بهدف ضمان التحكم به عن بعد.
وهذا لا يعني أن تبني عالم الشمال لخيار المستقبل ضمن له تجاوز الأزمات التي تعصف به، وحل مشكلات إنسانه ومجتمعه، بل أن الخطأ القاتل الذي وقع فيه الشمال والمتمثل في إغفال البعد المعنوي في التطور والاندفاع نحو المستقبل، ثم استحضار آلهة جديدة تحمل عناوين المادة والعلم والتكنولوجيا، أدى إلى هذه الأزمات الحادة في الأخلاق والسلوك الفردي والاجتماعي، وفي الثقافة والفكر.
أما عالمنا النامي، فإنه يعيش مرحلة أخرى، هي مرحلة التشبث بالعصر وخياراته، وهي مرحلة لا يمكن تجاوزها إلى مرحلة المستقبل التي يعيشها العالم المتقدم، إلاّ بعد التسلح بمتطلبات المعركة الجديدة، ونقصد بها معركة الإمساك بالعصر، كمدخل لمعركة المستقبل.
ونرى أن السلاح الأهم في هذه المعركة، على المستوى المعرفي والمنهجي، هو سلاح الدراسات المستقبلية (Futur Studise)، وذلك يتطلب ـ في مرحلتنا ـ التعرف على هذا الحقل والتنبه لضرورته وأهميته، ثم ممارسته نظرياً، وصولاً إلى هدف ثماره العملية، التي تأخذ فيها الأصول والمبادئ المقدسة موقعها الحقيقي في رسم معالم المستقبل وتحديد شكله ومضمونه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *