في ستينيات القرن الماضي كنا نستقبل في صباحاتنا برجل يحمل بيديه سلة كبيرة ومغطاة بقماش من التور وعلى شكل مخروطي ، وداخل السلة كرات هيلامية ملونة ذات مذاق حلو جدا وتذوب بالفم لمجرد ان يلامسها اللسان ويطلق عليها (الگلگ ــ بيض اللقلق).
والقماش خوفا على البيض المحلى من الذباب ، والشكل المخروطي لإضافة جمالية لطريقة العرض ، وكنت كلما اشتري أتذكر سحر مناظر اللقالق التي تعشعش على خزان الماء او منارة جامع السدرة ( الحاج طالب ) قرب سوق التنكجية في شارع الجمهورية بالناصرية ، وكذلك هناك عشا لقلقين على منارة فالح باشا الكبير قرب مبنى البلدية .
كانت اللقالق شيئا من سعادة المشاهدة السماوية في طفولتنا ، وكنت أراها ايضا على منائر الأضرحة المقدسة عندما كانت امي تصحبنا الى زيارة المراقد المقدسة ،وهناك كنت أرى البائعين ، فأينما تكون اللقالق يكون الرجل الذي يبيض بيضها على شكل حلويات .
بعد حرب الثمانيات ( العراقية ــ الإيرانية ) اختفت اللقالق من مدن الجنوب والوسط ولم تعد تأتي مهاجرة من المدن البعيدة لتعيش دفء شتاء بلاد الرافدين ، وأظن ان الناس نسوا التطرق اليها والرغبة بمشاهدتها وهي فوق المنائر ، وبالتالي اختفى ايضا منظر الرجل الذي يحمل السلة المخروطية وفيها البيض الملون .
طعم الذكريات
ولو سألت الآن الأجيال الجديدة عن تلك الحلوى فأي واحد منهم سوف لن يعرفها ولم يرى شكلها ولم يتذوقها ويسألك ان كانت هي بطعم المارس او الكت كات او الباونتي ، فتجيبه :لا يابني انها بطعم ذكرياتنا .
مرة صادفت لوحة لصديقي الفنان محمود فهمي وقد رسم عليها اللقلق يعتلي منارة عشقه واكثر الأمكنة محبة لديه لتكون عشا ، وبتقنية الضوء واللون قرب فهمي المشهد الى روزنامة الذكريات وعشت مع لوحته ــ الشهرزادية ــ الحلاوية ــ البغدادية حلما تلك الصباحات التي كان فيها بائع بيض الگلگ يستقبل يومنا المدرسي بأبتسامته الملونة بالأمل والرزق والعوز وهو يقف قرب باب المدرسة ، فيما عامل الخدمة في المدرسة يقف الى جانبه وينصحنا بالشراء من الحانوت المدرسي وليس من هذا البائع المسكين ،ويفعل عامل الخدمة هذا بتوصية من مدير المدرسة.لوحة صديق البارع محمود فهمي أعادت روحية الهاجس الغائب في أرواحنا وذكرتنا بهذا الطائر الذي تجهل عنه الأجيال الجديدة كل شيء . وجعلني اربط سعادة اللون والفضاء والشرق الأستشراقي المسكون برسالة الفنان لتكون طريقته أحياء لأرث حضارة وإخراج خبايا الشرق الذي لا تريد البلديات وأمانة العاصمة ان تهتم به ، فكان اللقلق في لوحة محمود فهمي إشارة على اندثار وانقراض وموت وخراب الكثير من الموجود البيئي والأحيائي العراقي خصوصا مع موجات الجفاف القادم وعواصفه الترابية والرملية.لكن قبل ايام شاهدت في قناة زاجروس الفضائية الكردية تقريرا جميلا بعنوان لقالق كردستان ، وهو تقرير متقن في تصويره وجمالية تتعبه لأسرةٍ من اللقالق تتكون من أربعة طيور وقد اجتهد المخرج في متابعة يومها بدقة من الصباح الى المساء.فرحت كثيرا ان اللقالق ما زلت تطير في سماء العراق حتى لو في الجانب الكردي ،لكن ما انتبهت اليه هو ان لقلق كردستان كان صغيرة وليست بحجم اللقلق التي كنت أراها تبني أعشاشها على منارات جوامع مدينتي الناصرية او منائر الأضرحة المقدسة او هذا اللقلق كبير الحجم الذي رسمه صديقي الفنان محمود فهمي في لوحته الرائعة.المهم مازالت هناك لقالق . وما زالت الذكريات تتلون مع لون البيض في السلة المخروطية التي يحاول البائع فيها جاهدا أن يمنع دمعته على السوق فوق البيض ويخرب ،ذلك عندما كان يسمع نصيحة موظف الخدمة في مدرستنا المرحوم ( جويد ) بأن لا نشتري منه بل نشتري من الحانوت المدرسي.