يمثل الفضاء الشعري في قصيدة النثر المصرية، بابا من أبواب الدخول لمقاربة القصيدة، حيث تتعدد شعرية الفضاء في النص الشعري، فيرتكز الشاعر على الفضاء الداخلي، بوصفه حيزا جغرافيا للصفحة التي يتحرك فيها النص الشعري، وأما الفضاء الخارجي، هو المساحة التي يستدعيها النص إلى منطقته، متداخلا معها من جهة، ومستدعيا صورها الشعرية من جهة أخرى، حيث يبدو الفضاء في النص الشعري، بنية مؤسسة لخصوصيته الفنية، حيث إنه يمنح النص الشعري رؤية جوهرية للمعنى، ويفتح آفاقًا متجددة لانهائية، لاتساع الدلالة في سياقاتها المتغيرة، وفي ظني أن المكان الشعري ينبثق عن الفضاء ، لأن الفضاء أكثر اتساعا من المكان، فقد يكون المكان هو المعنى الذي نبحث عنه، وهو في الوقت نفسه يسكن في خلايانا الداخلية، وأرواحنا. فصار المكان يحمل أكثر من شكل في العمل منقسما إلى المكان النفسي و المكان المثالي، ونلاحظ الهوة الواسعة بينهما” فالمكان النفسي هو الذي ندركه بحواسنا، وهو مكان نسبي لا ينفصل عن الجسم المتمكن على حين أن المكان المثالي الذي ندركه بعقولنا، وهو مكان رياضي مجرد ومطلق، وهو وحده متجانس، ومتصل بأحلامنا وذكرياتنا وطموحاتنا المختلفة. وقد تجلى المكان الشعري بشكل لافت في ديوان للشوارع أرواح أيضا للشاعر إسلام سلامة.
ينتمي الشاعر المصري إسلام سلامة ( الواحات الداخلة /1975) إلى جيل شعراء التسعينيات في قصيدة النثر، حيث تطرح نصوصه الشعرية علائق متواشجة بين الذات والمكان، حيث تنشغل الذات الشاعرة في ديوان ” للشوارع أرواح أيضا” / دار الأدهم ، القاهرة،2022 إلى ما يعرف بشعرية المكان ، حيث تتجلى صورة المكان بوصفه روحا تخترق حواجز الذات الماضوية ، لتسكن جراحات الواقع المعيش، وفي ظني أن الشاعر إسلام سلامة من الشعراء الذين اكتووا بنار الشارع ، حيث يصبح الشاعر رمزا للروح ، فالشاعر يطرح علاقة الشارع بالبشر الذين يمرون من خلاله، بل أعتقدُ أن ثمة تجربة داخلية بين الشاعر والشارع ، بل يحاول الشاعر من خلال الفعل السردي الواضح استنطاق الشارع ، بل الدخول في تفاصيل روحه مستبصرا حياة الشوارع التي تمثل جزءا جوهريا في حياة الإنسان ..
• سيمياء العنوان:
تمتد روح المكان الشعري في قصائد سلامة بدءا من العنوان الذي يحمل أرواح الشوارع وعلاقة الذات الشاعرة بهذه الشوارع / المكان، لأن المكان هو الروح الذي تتخلل حياتنا بل تعيش الأمكنة في خبايا النفس الداخلية، فجاء العنوان محملا بأسئلة مكانية مضمرة ،فنلاحظ في العنوان” للشوارع أرواح أيضا، ما علاقة الشوارع بالأرواح، وما المكان الذي تمثله الشوارع في حياة الإنسان؟ وهل تتماهى الشوارع في روح الإنسان؟ وللإجابة عن الأسئلة السابقة، نقف عند منطقة أنسنة الأشياء/ الأمكنة، فينتقل الشاعر بالشوارع من صورتها الجامدة إلى صورتها الإنسانية، فهي كائن حي يمتلك كل طاقات الإنسانية، فيشعر ويبوح ويتحرك ويحلم ، وجاءت مفردة أرواح لتمنح الحياة المتحركة للشوارع، التي تؤثر في حياة الإنسان. وأعتقد أن الشاعر يعتمد في بناء عنوانه على بنية الجملة القصيرة التي تخبرنا بوجه الشوارع الخفي، الذي يراه هؤلاء الخاشعين بروح المحبة في ملكوت أرصفتها الحانية والجريحة العارية التي تواجه وتتحمل آلام وهموم المارين فوقها كل لحظة.
• سيرة المكان/ الشارع:
اتكأ سلامة على السيرة الغيرية المكانية في عملية السرد الشعري في القصيدة، لأن السيرة الغيرية للشارع، هي سيرة يمتلكها الشاعر للحديث عن صورة الشارع في الحياة، لأن الشارع يمثل الغير/ الآخر الذي يتحدث عن نفسه من خلال صوت الشاعر، فيقول في قصيدة بعنوان ” لا أحتاج أكثر من ذلك “:
” أبدو شامخا في الصباح
أمام زحف العابرين
وقسوة الإطارات
وتناثر القمامة والشحاذين بين ضفتي”
يتحدث الشاعر عن حياة الشارع وتفاصيله اليومية من خلال ما يلقاه من شموخ الصباح وزحف المارين عليه ، وقسورة السيارات ، والقمامة، والشحاذين، يحشد النص الشعري الكثير من الكائنات التي تسكن الشارع، فيبدو الشارع فضاء واسعا، تمارس فيه الكائنات حياتها اليومية الصاخبة، فيصور النص الشارع وكأنه البطل الذي تتوارى فيه الأشياء بعيدة عن عيون المارة الذين لا يكترثون بروح الحياة، وعلى الرغم مشهد الشموخ الصباحي للشارع فإنه يكون منهكا ومرتبكا في المساء. ويقول أيضا:
” أنا الذي كل ليلة
أنام على كتف الرصيف
مرهقا ،
أسود التفاصيل ،
وطي القلب
الجائع ليد حنونة
تربت ظهري الإسفلتي
وتكنس أوجاعي
وتهون على خطايا اقترفتها الأحذية
آخر كل ليل ”
من الملحوظ في المقطع الشعري الفائت تلك الصوة التي يتماهي فيها الشاعر من البطل الشارع ، حيث يحتاج الشاعر إلى الرحمة الإنسانية، حيث يتحمل الأوجاع وحده جراء خطوات الأحذية القاسية التي تمر على ظهره كل لحظة، ويمكن لنا القول: بأن الشاعر يتحدث عن نفسه لا عن بطله المتخيل/ الشارع، فهو الذي يحتاج إلى المحبة والرحمة والطمأنينة الكونية التي هربت من قلبه ذات لحظات القسوة الدائمة. ويقول في مقطع آخر على لسان الشارع:
” أنا الشارع الذي
لم أكن أحتاج لأكثر
من قبلة
أو عناق حميم بين عاشقين
عند إحدى زواياي المظلمة ،
قبل أن أنام
جائعا ، وحزينا ”
ينسج الشارع في النص حديثا عن حياته ومشاعره المختلطة بالجراحات التي لا تندمل، فهو يحلم بالحب والرغبة في الحرية والهواء الرطب الذي يشفي جراحاته، فعلى الرغم من حديثه عن الجوع والحزن، وهي صورة مفارقة لما يحلم به من قهر وتهميش متعمد ،فإنه يقف وحده في شجاعة الفرسان محددا طموحاته ورغبته في توزيع المحبة على الكائنات التي لا تشعر به على الرغم من معايشتها لما يحلم به، فهي لا تدرك أهمية الأمر بقدر معرفتها العاجزة عن الدفاع عنه أو التحليق من أجله. ويقول الشاعر في قصيدة عنوانها ” ليست مصادفة على الإطلاق ”
” على الرصيف ككل يوم
لم يكن في الأمر شيء غريبٌ
كان يسير رويدا …. رويدا ،
يده اليمنى تتأرجح ببطء،
واليسرى ترتفع إلى فمه
من حين لآخر ،
بسيجارة سيطفئها قبل الوصول
ونظرته
لا تحيد عن طرف الليل
عند نهايتي ”
ينسج الشاعر إسلام سلامة فضاء شعريا متشابكا بين الذات الشاعرة والحياة في الشارع، حيث يحمل الشارع دلالات مكانية واجتماعية وسياسية مختلفة، فهو الحياة التي لا تهدأ مطلقا، يحمل كل متناقضات الإنسانية، يسير فيه الحزين والسعيد الغني والفقير والطموح والمحبط، .. إلخ. ومن ثم نلاحظ تلك العلاقة الوجودية بين الشارع / الرصيف / البطل ، والذات الشاعرة التي تمارس حياتها من خلال الشارع الذي تنتهي ملامح بانتهاء السيجارة ، فالنص الشعري عند إسلام سلامة إذن يحتفي بالمهمشين الذين يعيشون على حافة الحياة بكل تفصيلاتها البشرية المتناقضة، وكأنهم خلقوا للشارع، فالنص أيضا يستدعي أبناء الشوارع / أطفال الشوارع ، وعلاقة الشارع بهؤلاء الذين يجعلون من الشارع مسكنا وبيتا وملاذا آمنا لممارسة الحياة بكل تجلياتها وأبعادها الحياتية. ومن ثم فإن القصائد تطرح في كلياتها العلاقة الأبدية بين الذات والشارع ، وما كنه هذه العلاقة البشرية بين عالم يمور بالمتناقضات وآخر يبحث عن المحبة والسعادة على وجوه المارة ، فلا يجدها .

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *