تطور مفهوم الشعرية العربية في الدراسات النقدية ولم يقف عند حدود ثابتة ولا يمكن التعامل معه من باب اصطلاحي ثابت أو واحد؛فقد اختلف النقاد حول اصطلاحه حتي تجاوزت المصطلحات عن مفهومة لأكثر من ثلاثين مصطلحا؛فالتجديد في مفهوم الشعرية تجاوز حدود الثابت من الزمان والمكان وكان في محاولاته الدائمة في التمرد علي المألوف بحسب البيئة وزمنها وأرضية الثقافة والمعرفة التي أدت الي مراسم ومنصات تمرده علي نحو ما ثبت اصطلاحه واختلاف ما بني في مفاهيمه الاصطلاحية.
والشعرية العربية تتغير من وجهة نظري وظائفها بتغير الزمن والفعل الواقع عبر كل بيئة وثقافتها واطلاعها علي المستجد والمتغير علي المنصات العالمية ووفق المتفق بين المتعايش معها وفيها وهو ” المبدع” وهو الذي ينتج أدواتها ويفرد قلوعها للابحار قبل الناقد الأدبي الذي لا يملك غير أداته العلمية الثابتة عند حدود المصطلح الخام ولا يملك باعا واحدا في تعزيز قدرات وملامح المصطلح الذي تم الاختلاف عليه قديما وحديثا ولا يمكن أن تبني مفاهيمه علي اللغة التي لا تتوافق مع البيئة والزمن وفعلهما الحركي وفق قوانين الشعر العربي وقواعده المنسجمة والمتغيرة بتغير حركية مفهوم المصطلح مع كل زمن.
لنجد أن الكثير من الأكاديميين غير المطلعين علي واقعية وحضور مفهوم مصطلح الشعرية والواقفين عند قشرة الثابت من مفهوم المصطلح الواحد لا يعترفون بالاتفاق والاختلاف الذي أوجد ضبابية واسعة في تحديد مقوماتها ومرتكزاتها الأساسية، ويبنون رؤاهم وفق الثابت أو ربما كان بسبب عدم معايشتهم لتطبيق منجز الإبداع.
هؤلاء الذين وجدوا منصات رسمية يدفعون عليها مفاهيم لا ترتكز علي أرضية مصطلحات جديدة تنسجم مع واقعية الشعرية ومرتكزاتها الأدبية المستجدة ليرسخوا ويثبتوا اطرا غير صحيحة علي مشروعية حضورها العام وفق ارضية لا تملك روحا له ولا جسدا عفيا يتحرك بحركية الفعل ولغته المتوافقة لا خام المصطلح.
ومن هذه الأسباب الواضحة تأريخيا تعطل المشهد النقدي في عمومه كما أنه تجمدت مفاهيمه ولم يتوافق لها معالم مع حركية المشهد الأدبي في عمومه في حاضره وفي تطلعه رغم أن النقد في قديمه وفي العصور السابقة وقبل الألفية الحالية قدم اطروحاته الاصطلاحية بصدق رغم اعترافنا باختلافاتهم التي منحتنا أكثر من ثلاثين مصطلحا عن مفهوم الشعرية وقد اقتربوا كثيرا في تحديد الوظائف من دون تحديد المفاهيم
“حيث تمتد جذور الشعرية العربية الأدبية عند العرب القدامى. منهم حسان بن ثابت علي اعتبار أنه قال شعرا غير موزون وقد أشار النقاد لاحقا أن الجمالية فيه لم تكن مقصودة لمصطلح الشعرية بقدر قصد الجمالية الفنية في استخدام الصورة الفنية”(1)
مما يدفع بنا العمل نحو الارتكاز علي أسس فنية تحدد مفاهيم المصطلح وكذا مفاهيم تخص سيكلوجية المبدع نفسه لتتوافق البنيتان في إنتاج دلالات واضحة لمفهوم الشعرية
وقد اشتركت الاصطلاحات حول مفهوم الشعرية في باب واحد هو البحث عن قوانين للإبداع رغم اختلافها الكامل حول المفهوم العام وهو ما دفع بنا إلي أن الشعرية العربية تتوافق مفاهيمها عند كل بيئة عبر زمن وتطور فعلها ورشاقة حضورها لا الثابت والخام في توظيفها ومن هنا كان علي المهتمين أن يسعوا إلي العمل في التطبيقات المدعمة لتوثيق مفهومها المختلف عبر كل بيئة لها وعبر ثقافتها وحداثة فعلها وتوافق لغتها وتطورها.
“وقد أكدت الدراسات أن مفهوم الشعرية العربية اصطلاحا بدأ بالتبلور وبدأت ارهاصاته الفعلية مع ظهور الخطاب الرومانسي عند جبران خليل جبران وظهور المدرسة الرومانسية واتجاهاتها المختلفة وقد انبثق منها الشعر الحر وكانت جماعة مجلة شعر وكتابها هم من جسدوا مفهوم الشعرية العربية في النص الشعري واخراجه عما حاول النقد القديم تحديده في عمود الشعر من خلال قصيدة النثر التي ترجموا فيها مشروع الناقدة الفرنسية “سوزان برنار” حول مفهوم قصيدة النثر واسسوا منها مفهوما جديدا للنص الشعري ولمفهوم الشعرية العربية”(2).
كما ترسخت مفاهيم الشعرية التي بنيت علي تطور اللغة فيها وحققت مسارات العمل من عدة ملامح، كان أبرزها حركية الأفعال الدالة لإنتاج جماليات الدفقة الشعرية المتناغمة مع أدواتها ومع بنية الكتابة ومنح المبدع مساحات العمل في عجينة ذات ملامح وذات أبعاد جمالية مغايرة لم تكن موجودة إلا ما ندر من وجودها في سابق عملها قبل ملامح التجديد الشعري في العصر العباسي وما بعده حتي منح بعض الشعراء المطلعين والمشغولين بقضية الشعرية ومفاهيمها المستحدثة بحركة الزمن وتقبل بيئة المبدع و تلاقحها الجمالي والحالي مع الفلسفة الإنسانية والفكر والتناص من التراث ومن الكتابة ذات الشواهد الدالة التي تضيف للنص مستجده لتحقيق أفضل نتائج جمالية تشهدها منصات الشعر الحديث.
ومن البديهي أن يختلف النقاد في الاصطلاح حول مفهوم الشعرية العربية بسبب محاولاتهم في وضع قوانين إبداعية ذات محددات إنسانية تكتمل منها دائرة العمل في إنتاج النص الشعري أو الأدبي،يكون الفعل الشعري فيه هو البطل، كما يتحدد منه مقومات الشعرية الحديثة ومرتكزاتها الأساسية التي تبحث عن المتغير إلا أن هذا الاختلاف في مفاهيمها كان التركيز علي أسبابه طريقا نحو العمل والبحث عن قوانين لا تتوقف عند مسار الإبداع الثابت بل يجب أن ترسم معالمه الحداثة ومستجداتها وتطور نظمها عبر التأريخ الإنساني القادم.
” الشعرية ليست تأريخ الشعر ولا تأريخ الشعراء. … الشعرية ليست فن الشعر لأن فن الشعر يقبل القسمة علي أجناس وعلي أغراض. .والشعرية ليست الشعر ولا نظرية الشعر.
إن الشعرية في ذاتها هي ما يجعل الشعر شعرا وما يسبغ علي حيز الشعر صفة الشعر ولعلها جوهره المطلق(3) “مرشد الزبيدي، اتجاهات نقد الشعر العربي في العراق. اتحاد كتاب العرب. دمشق1999 ص 104”.
إذا تقترب المفاهيم هنا من استناج تعريفها علي نحو يجمع بين تواتر وجودها الإنساني في دفقة الأحوال وحركية مجراها واتساع سماواتها ورشاقة لغتها وانسجام إيقاعها حتي تكتمل ضفيرة وجودها داخل النص الشعري.
“ويقصد بالشعرية أيضا كل قانون داخلي للأدب معني باختبارات المبدع الأدبية والسمات الأسلوبية في النص الأدبي بحيث تكون البني الداخلية للنص الأدبي وآلية بنائها وعملها هي واحدة من موضوعات الشعرية كالبني الصوتية وغيرها وتواشجهم فيما بينهم بما يحقق بصمة خاصة للمبدع وقد عرفها كمال أبو ديب بأنها الفجوة أو مسافة التوتر بين اللغة المجودة واللغة المبتكرة أو بين البنية العميقة والسطحية”(4)
واذا بحثنا عن أصل اللغة لمصطلح الشعرية عبر مدارها البشري في بيئاته المختلفة نجد أن مفردة “شعر” كان التأسيس لها من باب علمي متوافق مع فعل اللغة ومتوافق مع سيكلوجية المبدع وأحواله وفق معايير فنية ونقدية غير ثابتة.
“بالعودة إلي أصل اللغة للمصطلح نجده يرجع إلي الجذر الثلاثي “ش،ع،ر” حيث جاء في قاموس “مقاييس اللغة” لابن فارس _الشين والعين والراء_ ، أصلان معروفان يدل أحدهما علي ثبات والآخر علي علم وعلم… شعرت بالشيء إذا علمته وفطنت له وفي المقال الكثير من الأمثلة
وهو دلالة علي العلم والفطنة والدراية
كما يعد مصطلح الشعرية في النقد العربي من المصطلحات المعقدة عكس ما نجده في النقد الغربي والسبب يعود إلي أصل المصطلح(الشعرية) فهو مترجم من لغته الأصل poetique إلي اللغة العربية (شعرية ) وهو مصطلح فرنسي وهو منحدر من الكلمة اللاتينية poetica المشتقة من الكلمة الاغريقية poetikos وأصبحت الشعرية من أشكل المصطلحات وانغلاق مفهومها.
وتتعدد مفاهيم الشعرية ودلالات المصطلح بتعدد الصياغة المتبناة أصلا لهذا المصطلح وتعدد الاختلافات القائمة بين النقاد حول الشعرية.
وكان التأكيد علي أن مفاهيم الشعرية العربية لا يجب أن تقف عند ثابتها لأنها عرفت منذ القدم وعبر النظرية النقدية علي بناء مساراتها عبر النقد الشفاهي وعبر الذاكرة الجماعية ليتم تطويرها بحسب معايير الزمن ووفق تطوره.
“عرفت النظرية النقدية منذ القدم في ارتكازها علي النقد التسجيلي وتدوين ما تحتويه الذاكرة الجماعية من أشعار وكانت تتبع لمعايير الزمن والحياة البدوية وارتكزت النظرية الشعرية علي النقد التقعيدي حيث جمعه الرواة وطوره رواد الأدب في عصر التدوين وما بعده.
وأسس الشعرية العربية مجموعة من الأدباء والشعراء الذين جعلوا الأرضية الأدبية قوية منهم الأصمعي وابن المعتز وابن سلام الجمحي والمرزوقي الذي أطلق مصطلح عمود الشعر الذي كان من أساسيات الشعرية العربية ،وللعمود دلالات عديدة عند العرب فهو يرمز إلي الرفعة والشموخ والتواجد علي الدوام”(5).
لنخلص الي أن المصطلح النقدي الثابت لمفهوم مصطلح الشعرية العربية لن تنسجم ضروراته الفنية ما لم يتم السعي إلي تطور له يتوافق وينسجم مع كل زمن وكل بيئة وفق المعايير الفنية للنص الأدبي عبر سيكلوجيته.

________________________________________________
* _ (1)راجع موقع سطور مقال بقلم لبابة حسن في مايو ٢٠١٩
* _ (2)راجع موقع سطور مقال بقلم رنا أرزيق ٢٦ يوليو ٢٠١٧ موقع
سطور
* _ (3)راجع “الشعرية مفاهيم نظرية ونماذج تطبيقية” د. سهام طالب
مجلة أوراق ثقافية _ مجلة الأدب والعلوم الانسانية_ العدد
السابع ربيع 2020. ذات المقالة
* _(4) راجع ” الشعرية مفاهيم نظرية ونماذج تطبيقية” د. سهام طالب،
مجلة أوراق ثقافية_مجلة الأدب والعلوم الإنسانية_العدد
السابع 2020. ذات المقالة
* _ (5) راجع “الشعرية مفاهيم نظرية ونماذج تطبيقية” د.سهام طالب
مجلة أوراق ثقافية _ مجلة الأدب والعلوم الإنسانية _ العدد
السابع 2020، ذات المقالة

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *