لابد من الإعتراف بدور الإعلام, في تضخيم الحدث مهما كان بسيطا, وبغض النظر عن غاياته وسعة مساحة التعاطي الاجتماعي معه سلبيا كان أو إيجابيا..
المبالغة الإعلامية “المقصودة” في وصف بعض التحركات, التي حدثت في العراق بعد الاطاحة بنظام البعث، والتي قيل أنها “ثورة” في وصف لا ينطبق عليها, لعدم حصول إجماع وطني على آلياتها من جهة, وحجم الضرر الناجم عن مخرجاتها كن جهة أخرى، وتأثر الجميع به دون استثناء.. هو نموذج لما يمكن أن يفعله الإعلام.
الأمر الآخر بهكذا قضايا, يتعلق بحدوثها في ظل أجواء سياسية ضامنة لحرية التعبير والتعددية في المناهج والأفكار والثقافات.. فيما تبين الأحداث التاريخية حصول الثورات عندما تتعامل السلطة بفردية وديكتاتورية إقصائية, وتعتمد منطق القوة في سحق معارضيها وتصفيتهم، ورغم كل مشاكل نظامنا السياسي, لكنه لا يمكن أن يعد دكتاتوريا مقارنة بما سبقته من أنظمة حاكمة..
بناء على ذلك يمكن إعتبار حراك بعض العشائر في المنطقة الغربية, في ما عرف في حينه بساحات “الاعتصام” تمردا ناشئا عن اعتبارات طائفية, حالت دون الإعتراف بالحالة السياسية, التي حلت بديلا عن فكر البعث الذي هيمن على المشهد العراقي لعقود..
اتسم هذا الحراك في بدايته بعدم التنظيم لإيهام الرأي العام بعفويته, وإنه جماهيري تبنته الطبقات المحرومة, والتي تعاني من الخدمات والبطالة والتهميش والإقصاء، ليصار بعد ذلك إلى رعايته من جهات محلية وإقليمية, وقيادات مشخصة اتخذت من بعض العواصم وشقق الفنادق, غرفا لعمليات التحكم عن بعد بالمجاميع المغرر بها، الذين سارع العديد منهم للانخراط ضمن الميليشيات المسلحة برعاية ما سمي في حينه المجلس العسكري لثوار العشائر.
إستخدام تلك العناوين واختيار بعض المفردات, يندرج ضمن أساليب الحرب النفسية التي يبالغ القائمون عليها في رفع سقف مطالبهم, والتفنن بصناعة الأمل الكاذب عند مؤيديهم, مدعين قدوم الخلاص, وأنهم قاب قوسين أو أدنى من التخلص من عدوهم.
بعد ساحات الإعتصام بعقد من الزمن, شهد العراق حراكا وصفه القائمون عليه بأنه امتداد لثورة عاشوراء, لتصادف توقيته مع ذكرى واقعة الطف، والملفت للنظر أن المنصات الافتراضية والقنوات الفضائية التي دعمت الحراك العشائري, هي ذاتها أيدت هذه “الثورة”.. بالإضافة إلى الخطاب “الثوري” الموجه لنفس الطبقة السياسية, التي كانت هدفا لثوار العشائر, وبنفس الآليات المعبرة عن شيطنة فريق ينتمي لمكون معين وهم الشيعة، وبنفس حدة الخطاب والتغافل عن سلبيات الطبقة المتصدية برمتها, خصوصا في المساحات الأخرى التي تمثل الطيف العراقي.
يمكن القول أن خطاب “ثوار عاشوراء, أتخذ منهج الكراهية التي وظفت له ذات المفردات, التي استخدمت في “ساحات الإعتصام” للإيحاء بتهم العمالة والتبعية, وتنصلوا من الفشل والإخفاق الذي اكتنف التجربة السياسية, رغم مشاركتهم الفاعلة فيها.. بل وفي بعض محطاته بالغ في مثالية النخبة الداعمة له, وإنه المنهج المتبع لتحقيق الغايات والأحلام المنشودة!
ايضا يتفق الخطابان على تحميل الدستور العراقي المسؤولية عما وصل اليه حال البلد، ناهيك عن تطابق الرؤى في تقبيمهما لمن لا يتفق مع رؤيتهما للواقع وان الحوار ما هو إلا مضيعة للوقت والتصعيد وشحن العواطف كفيل بتعجيل الحلول التي ينتظرها الشعب.
يتفق الخطابان ولربما ينسجم معهما خطاب تشرين أيضا, في توظيف مفردة الشعب عنوانا شاملا لمجمل الحركة الإصلاحية “المدعاة” إذ يزعم الجميع تمثيله لعموم الشعب, وكأنه مخولين بالتحدث نيابة عنه, فيما نجد التباين واضحا للعيان بين المشاريع الثلاث, فالمتبنى الأيديولوجي والفكري والثقافي لكل منهم مختلف عن الآخر.
دستوريا لا يختلف اثنان على أحقية الجميع في التعبير عن أفكارهم، ما لم يؤدي لإدخال البلد في متاهات يصعب الخروج منها, وهو ما حصل أعقاب الحراك العشائري حيث إنتهى بدخول داعش للمنطقة الغربية, والذي كان لفتوى الجهاد الخالدة الكلمة الفصل في دحر الغزاة, ثم جاءت تشرين لتحول فرحة النصر لمأساة يصعب نسيانها, لما شهدته من عمليات قتل وسحل لجثث الأبرياء, واغتيالات لعدد من الناشطين, وعمليات القنص للمتظاهرين, والعنف ضد القوات الأمنية التي قدمت تضحيات لا يستهان بها.
هل ستكون مقولة الأمور بخواتيمها, شاملة لجميع الفعاليات وتنتهي ثورة عاشوراء بما لا يسر الخواطر, أم أن لقادتهم رأي أخر؟
هل سيكون المغرر بهم من “ثوار عاشوراء” حطبا لنزوات قادتهم؟ كما هو الحال في قادة حراك العشائر, الذين تنعموا ولا زالوا بصدقات دولهم الداعمة, وتركوا جماهيرهم ضحية للغزو الداعشي؟ وهل سيتعظ أبناءنا بما حصل في تجربة تشرين, وما أنتهجه “متزعموها” بإستخدامهم الأسلوب المخادع, وأستغلوا جماهيرهم لتذوق حلاوة المناصب, وليتركوا التكتك وصاحبها, عرضة لآفة الجوع والحرمان والإهمال؟