من زاوية معينة، هناك نوعان من الدول هما: الدولة السلطانية، والدولة الحديثة. والفرق بينهما كبير رغم اشتراكهما في الأركان الاساسية للدولة اي الشعب والارض والحكومة.
الدولة الحديثة تقوم بالمؤسسات والدستور والقانون والديمقراطية وتداول السلطة دوريا عن طريق الانتخابات والقضاء والمواطنين والاعلام الحر المستقل والرقابة والمساءلة. وهذه كلها منفصلة عن شخص الرئيس او الحاكم او السلطان. والحاكم شأنه شأن كل المواطنين خاضع للدستور والقوانين. هذا النوع من الدول حديث نسبيا، ومن هنا جاء وصفها بانها دولة حديثة. وصفة “الحديثة” شيء، وصفة “المعاصرة” او “الحضارية” شيء اخر. لكن الحديث عن الفرق بين هذه الاوصاف خارج نطاق هذه المقالة.
لا نجد هذه الاوصاف والعناصر في الدولة السلطانية. فهذه الدولة كما يتضح من اسمها او وصفها متقومة بالسلطان، او حكم الرجل القوي. والسلطان حاكم، وغالبا ما يكون رجلا، غير منتخب، و لا يقيده دستور او قانون او مجلس، ولا رقيب او حسيب او اعلام حر او احزاب معارضة. القران يطلق اسم فرعون على هذا الحاكم الذي سيقول:”أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ”، ويقول: “مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ”. ويتألف الشعب في الدولة السلطانية من “رعايا”، يعيشون تحت رحمة السلطان ومكرماته. اغلب الدول القديمة دول سلطانية، مثل الدولة الاموية والعباسية والعثمانية و غيرها. وفي العصر الحديث قامت دول سلطانية بملابس فضفاضة حديثة، مثل كوريا الشمالية والاتحاد السوفييتي السابق ومجمل دول الكتلة الشرقية السابقة. وغالبا ما يكون الحكم في الدولة السلطانية وراثيا او بالتغلب.
العراق منذ عام ١٩٥٨ على الاقل محكوم من قبل سلاطين، وليس دولة. السلطان عبد الكريم قاسم والسلطان عبد السلام وعبد الرحمن عارف والسلطان صدام حسين. فعلى مدى السنوات منذ ١٩٥٨ الى ٢٠٠٣ لم يوجد في العراق دستور دائم، ولا برلمان جاد، ولا رئيس منتخب، ولا تداول سلمي للسلطة، ولا احزاب معارضة حقيقية علنية، ولا اعلام حر. حينما سقط السلطان الاخير في عام ٢٠٠٣، لم يتمكن المجتمع العراقي من اقامة دولة حديثة، فملأت الفراغ سلطنات فرعية محلية صغيرة. واغلب هذه السلطنات الفرعية ذات صبغة وراثية عائلية، ولا يعرف عنها انها تؤمن بالديمقراطية، والانتخابات، وتضع نفسها فوق المساءلة وتنصب نفسها وصية على ما تحتها من ناس. ويضاف اليها انها شعبوية بمعنى انها تمنح نفسها حق التحدث باسم الشعب كلها، ولا تتصور وجود شعب خارج دائرتها.
ومع ان الناس اجمالا غير سعيدين بالوضع الحالي في العراق حاليا، الا اننا لا نجد تمسكا ملموسا وقويا وواسع النطاق بخصائص الدولة الحديثة، التي لم تطرح كهدف اعلى للناس. صحيح ان بعضهم رفع شعار “الدولة المدنية” لكن لم يتضح ان المقصود هو الدولة الحديثة، انما الدولة اللادينية. وهذا امر بلا مصداق.
وبرغم علو صوت المطالبين بالاصلاح واتساع مساحتهم الشعبية الا اننا لا نسمع اصواتا قوية تطالب بالانتقال من حالة الدولة السلطانية الى الدولة الحديثة، الديمقراطية المؤسساتية الدستورية. وهذا يثير مخاف من ان الدعوات الاصلاحية بدون محتوى اصلاحي. فالمطالبة بالاصلاح شيء، والمحتوى الاصلاحي شيء اخر، وما لم تقترن الاولى بالثانية فاننا في حقيقة الامر لا نسعى الى الاصلاح، او لا نفقه معنى الاصلاح.
تتوفر ارادة اصلاحية في المجتمع العراقي الان كافية لاثارة الفعل الاصلاحي، لكن يغيب في هذه الاثناء المحتوى الاصلاحي ولهذا يخشى العقلاء ان تؤدي الدعوات الاصلاحية الخالية من المضمون الاصلاحي ضمن مفهوم الدولة الحديثة الى الفوضى والاستبداد والتخريب واعادة انتاج الدولة السلطانية.