لعل المطالبة بالاصلاح هي محل اجماع وطني الان في العراق. والاصلاح مطلوب على طول الخط في المجتمعات البشرية. والاصلاح يتضمن دائما وفي ان معا معالجة السلبيات في الدولة والمجتمع، واضافة الايجابيات لهما.
ويشكل الاجماع الوطني حول طلب الاصلاح ظاهرة ايجابية يمكن الاتكاء عليها والانطلاق منها لتحقيق الكثير من الايجابيات اذا توفرت الشروط المطلوبة للاصلاح، بما في ذلك بناء اجماعات وطنية تتطلبها العملية الاصلاحية.
لكن ما ينبغي تسجيله هنا، وبصراحة لا تدعو الى الزعل، ان المطالبات بالاصلاح حتى الان لا تتضمن محتوى يتناسب مع حجم الخلل الذي يعاني منه العراق مجتمعا ودولة. وربما تتمحور هذه المطالبات حول مسألة الحكم بسبب الازمة السياسية التي تعصف بالعراق، دون الالتفات الى الاطار العام للازمة. فهناك من دعا الى تغيير “معادلة الحكم”، وهناك من دعا الى تغيير “فلسفة الحكم”، وهناك من دعا الى “حكومة الاغلبية الوطنية”، وغير ذلك. وهذه العناوين كلها ناقصة. فمهما تحدثنا عن مسألة الحكم والحكومة فان ذلك يمثل الجزء الطافي من جبل الجليد، اي الجزء الظاهر على السطح من المشكلة في العراق دون ان يغوص الى اسبابها العميقة الجذور. وهذا يعني ان هذا الدعوات الاصلاحية تغطي مساحة جزئية من المشكلة وحلولها دون ان تتمكن من استيعاب المشكلة اولا، والتقدم بحلول شاملة لها، ثانيا.
مشكلات الدولة العراقية الحالية ليست جديدة او طارئة، انما تعود الى بدايات تأسيس هذه الدولة في اوائل عشرينات القرن الماضي، في ما يمكن تسميته “عيوب تأسيس الدولة”. وتعود هذه العيوب الى ما اطلق عليه الاختلالات الحادة في المركب الحضاري للدولة والمجتمع ومنظومة القيم العليا الحافة بعناصره الخمسة. ويجب على اية دعوة اصلاحية، علمانية كانت ام اسلامية ام اي شيء اخر، ان تتوجه في المقام الاول الى اصلاح هذه الاختلالات واعادة بناء المركب الحضاري وقيمه العليا بالشكل الصحيح. وهذه مهمة اكبر من تشكيل حكومة او تعديل دستور او الانتقال من النظام البرلماني الى النظام الرئاسي وغير ذلك من المصطلحات التي نسمعها في السوق السياسي. وهذا لن يتم الا بطرح فلسفة جديدة للدولة قادرة على تحريك عجلات المركب الحضاري بما يكفل خروج العراق من الازمة الحالية. ولست اجد فلسفة للدولة افضل من اطروحة الدولة الحضارية الحديثة.
تتألف فلسفة الدولة من عناصر مختلفة، تتوزع على مجالات هوية الدولة، ونظامها السياسي، ونظامها الاقتصادي، ومجالها الاجتماعي، والديني، والتربوي، والثقافي، والاعلامي وغير ذلك. ويفترض ان تكون الفلسفة الجديدة للدولة هي محتوى الاصلاح الجوهري حيث لا يصح التوقف عند الشعارات الفوقية المرفوعة الان. وهي شعارات بلا محتوى حقيقي ولا يمكن بحالتها هذه ان تصلح احوال البلاد.
ولا ينبغي ان ننسى اننا نتحدث عن الاصلاح في مجتمع متعدد. ولهذا لا يصح ان تكون الدعوة الاصلاحية احادية الجانب وتعبر عن رؤية فريق واحد. نعم يستطيع الفريق صاحب الرؤية المعينة ان يطرح رؤيته على الفرقاء الاخرين ويسعى الى خلق اجماع وطني حولها بالحوار والاقناع وليس بالفرض والاكراه. فان اقتنع الشركاء كان بها، وان لم يقتنعوا تعين البحث عن “كلمة سواء” قادرة على تحقيق الاجماع الوطني.
ومن هذا، التحاور في كيفية تحقيق الاصلاح على اساس الفلسفة الجديدة للدولة. ويجب ان يحظى الطريق المتبع الى الاصلاح باجماع وطني هو الاخر. والاجماع يعني الاغلبية اللازمة.
قد لا تستطيع الطبقة السياسية الحالية طرح فلسفة جديدة للدولة. وهنا يتعين على النخبة المفكّرة من الاكاديميين والكتاب والمثقفين القيام بذلك، كما دعت ذات يوم المرجعية الدينية الرشيدة.