بقلم | عباس الانصاري
عانى العراق منذ عهود بعيدة فجوة واسعة بين الشعب والحكومة، فالشعب العراقي يعتبر الحكومة عدوته لا تأتيه إلا بالضرر، البروفيسور العراقي في علم الاجتماع علي الوردي رأى في الأوساط الاجتماعية العامة ذلك بوضوح ووصف ذلك بانهم إذا رأوا باحث (افندياً) قادماً إليهم، وبيده قلم ودفتر، حسبوه جاء لجباية الضريبة، أو للتجنيد، أو سوقهم الى السجون، وهم قد اعتادوا أن يكذبوا في جوابهم له بشتى الطرق، خشية أن يصيبهم منه مكروه.
الوردي يقول إن اصح طريقة لدراسة المجتمع هي تلك التي جاء بها العالم الألماني المعروف، ماكس فيبر، وهي التي تعتمد على التفهم وتكوين المثال النموذجي، فهي ملائمة لطبيعة المجتمع العراقي وظروفه الخاصة.
عندما ندرس تاريخ العراق الاجتماعي، منذ أقدم عصوره حتى عصرنا هذا، نجد القيم البدوية تستفحل فيه حيناً ثم تتقلص عنه احياناً اخرى، وذلك تبعاً لوضع الدولة فيه من حيث ضعفها أو قوتها، فالدولة أساس مهم من أسس الحضارة، إذا قويت واستطاعت ان تقمع النزاع الداخلي وضربت على ايدي اللصوص وقطاع الطرق، هنا تزدهر قطاعات الحياة (الزراعة والتجارة والصناعة، وتنمو المدن و ينهمك الناس بمزاولة حرفهم المختلفة).
الأمر هذا حدث في تاريخ العراق مرات عديدة كما لا يخفى ذلك، وعندئذ نجد القيم البدوية تتقلص تدريجياً، لتحل بدلا عنها القيم الحضرية القائمة على الطاعة والاحترام.
في الفترات التي تضعف الدولة ولا تستطيع ان تحمي أرواح الناس وأموالهم، يضطر الأفراد الى الاحتماء بالقيم البدوية، يشتدون في التمسك بها كلما اشتد ضعف الدولة، فنرى العصبية القبلية و عادة الثأر والدخيلة والتسيار والنجدة والضيافة وما أشبه.
هذا المقال اقتبست بعض نصوصه من كتاب (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) للبرفيسور العراقي علي الوردي الذي صدرت طبعته الاولى عام 1965 ونحن اليوم في عام 2022 نشهد تجربة المجتمع العراقي الذي عاد الى التمسك بالقيم البدوية كون الحكومات المتعاقبة في العراق الجديد اتسمت بالضعف وعدم تلبية طموحات أبناء الشعب، لتحقيق الازدهار بمختلف قطاعاته التي توفر للفرد والمجتمع العام الأمان والتقدم الذي يشهده غرب وشرق كوكب الأرض، إذ لا تزال الحكومات في العراق الجديد تشكل بطرق وحسابات غير شرعية ولا تستند على مفاهيم الوثيقة الوطنية (الدستور) التي وقع عليها الشعب باستفتاء شعبي لتحقيق تطلعاته في عراق جديد كان قد مر في عصر البعث المظلم الذي بطش في الأرض والعباد.
هنا نقف على رماد الاسئلة التي يتداولها العراقيين يومياً في الاسواق، والمقاهي، وكذلك النقل العام، فضلا عن مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت حبلى بكشف فضائح الحكومة (السلطات الثلاث) وهدمت الكثير من القيم الحضرية لشعب العراق الضاربة جذوره في التاريخ ومر بتجارب وحقب كثيرة، لكنه مازال يبحث عن مخلص ينقذه من بوصلة التدهور التي تشير الى تذيل العراق القوائم الدولية التي تقيس مستوى التقدم والتحضر للشعوب.
هنا نحن نرى ان المجتمع العراقي يتعاطى مع أوضاعه بازدواجية، فاما يلجأ الى البداوة أو التحضر، فهو خامل ويتعاطى مع واقع الحال كطائر النعامة الذي يخفي رأسه في التراب حين استشعاره الخطر، فالمجتمع الذي لا يتمسك بقيمه ومفاهيمه ويصر على بناء مستقبله بيده، سيكون حديقة خلفية لتصفية حسابات الآخرين.
كما ان العراقي لا يعلم مايريد منذ عهود بعيدة فهو يتحضر حينما تساعده الظروف ويعود إلى البداوة في احياناً أخرى، ان بناء مجتمع قادر على الاختيار وتحديد مستقبله كما يحب امر صعب ومعقد ولا يستطيع علماء الاجتماع أن يعالجوا ذلك رغم الدراسات والأبحاث، كونه اعتاد على التعايش واللجوء إلى اساليب بديلة تحقق مصالحه الشخصية الانية لا ترسم له مستقبل يلبي طموحاته المستقبلية.