لست بصدد تحليل سلوكيات الدولة الصفوية، أو تسويغ ما تنطوي عليه مظالم وانحرافات؛ فهي دولة سلطانية وراثية، متشبهة في نظامها السياسي بالسلطنات المسلمة التي سبقتها أو زامنتها، كما أن أغلب ملوكها، لايختلفون في ممارساتهم عن غيرهم من الملوك والسلاطين المستبدين ومدّعي الخلافة الإسلامية.
لكن ما يعني لي في سلوك الدولة الصفوية هو جانبه الطائفي المبني على منظومتها العقدية المذهبية، وانعكاس ذلك على الواقع الشيعي العالمي عموماً، والعربي خصوصاً، وما شكّله ذلك السلوك من حماية تلقائية ستراتيجية للواقع الشيعي العالمي من حملات الاجتثاث والتشوية والعزل، بصرف النظر عن نوايا الدولة الصفوية وأهدافها، لأن مخرجات هذه الحماية العميقة ونتائجها هي المعيار في النظرة الى ثمراتها وأهميتها وضرورتها، وصولاً الى استجابة الواقع الشيعي غير الإيراني لمتطلبات التحالف معها والتخندق في جبهتها.
لقد كانت الدولة الصفوية في وقتها أمراً واقعاً، ولم يؤسسها الفقهاء الشيعة، بل كانوا يتعاملون معها على أساس ما تحققه للشيعة من مصالح مصيرية وجودية، وحماية كاملة لمجتمعاتهم وعقيدتهم وشعائرهم، بصرف النظر عن نواياها وغاياتها في هذا المجال، لأن علم النوايا من اختصاص رب العالمين، ومن العبث واللاعقلانية أن تسأل عن نوايا من يحميك من سيف يريد ذبحك ورصاصة تريد قتلك، أو تسأل من يمنع سارقاً من السطو على بيتك عن نواياه، وتسأل من يريد تحريرك من السجن عن نواياه، خاصة إذا كان هذا المنقذ والحامي يشترك معك في العقيدة والشريعة والشعائر والطقوس والرمزيات والمظلومية والتاريخ والثقافة المجتمعية الدينية، وإن كان بعض سلوكيات هذا المنقذ والحامي خاطئاً؛ فالأخطاء هي سمة السلطة دائماً، عدا الحاكم المعصوم.
ولذلك؛ أعتقد بأن سلوك الدولة الصفوية في حماية الشيعة ونشر مذهب أهل البيت، سواء كان يتم بدافع سياسي مصلحي أو بدافع الصراع السلطوي مع العثمانيين الطائفيين أو بدافع ديني، أو خليط من الثلاثة معاً؛ فإن سلوكها، في النتيجة، كان يتم لمصلحة الشيعة وواقعهم الضعيف المهدد، وخاصة الشيعة العرب، ويحافظ على كيانهم وأرواحهم ومعتقداتهم وشعائرهم من حملات الاجتثاث المستمرة، وهو السلوك الذي كان ممضياً من فقهاء الشيعة في ايران والعراق ولبنان والبحرين، أي يحظى بقبولهم وتشجيعهم، وكان هذا هو السبب الذي دعا الكركي والبهائي والجباعي وعلي خان ومئات الفقهاء الشيعة العرب الذين وفدوا على ايران لدعم الدولة الصفوية في مشاريعها التبليغية والدعوية والعلمية.
وبما أن الشيعي العربي والهندي والتركي والقوقازي، كان يستشعر تلاقي المصالح مع الدولة الصفوية، بل تطابقها غالباً؛ فلم يكن يعنيه البحث والتنقيب عن دوافع الدولة التي تدعمه وتحميه وتدفع عنه الأذى، وتستنهضه من أجل تحقيق أهدافه الدينية والدنيوية، لأن ما يجمع الطرفين هي المصلحة المذهبية المشتركة العليا، بأبعادها الدينية والاجتماعية والإنسانية، وهي الأبعاد التي ظلت تتعرض للمخاطر من الآخر الطائفي أو المستعمر على مر الزمن. وبالتالي؛ كان من البديهي والطبيعي والعقلاني أن يتحالف شيعة العراق ولبنان والشام وآذربيجان والقوقاز وتركيا والهند وأفغانستان والبحرين والحجاز مع الدولة الإيرانية الصفوية، في مواجهة التحالفات والتخندقات الطائفية التي تقودها الدولة التركية العثمانية ومعها السنة العرب قاطبة.
وهنا يطرح السؤال نفسه تلقائياً: لماذا كان مسموحاً للسنة العرب الولاء المطلق للسلطان العثماني التركي، والخضوع لحكمه، وتقبيل أعتابه، ولايسمح للشيعة العرب التحالف مع الدولة الإيرانية الصفوية، والاحتماء بها من ماكنة الذبح والتشريد والاجتثاث؟!، وخاصة ما كانت تقوم به الدولة العثمانية الطائفية ضدهم.
ولعل بعض من لم يقرأ التاريخ، أو يتعمد تزوير التاريخ؛ يذهب الى أن الظلم والقمع والاجتثاث الطائفي الذي ظل يتعرض له الشيعة منذ العصر الأموي ثم العباسي والسلجوقي والأيوبي والمملوكي، وصولاً الى العصر العثماني، كان مجرد ردود أفعال من هذه الدول على ما كانت تقوم به الدول والجماعات والشخصيات الشيعية من استفزازات، وخاصة ما يتعلق بممارسات الدولة العثمانية؛ إذ يصور المزورون للحقائق بأن ممارسات الدولة العثمانية ضد الشيعة، كانت تتم في إطار الصراع الصفوي العثماني. والحال أن الدولة العثمانية تأسست قبل الدولة الصفوية بأكثر من قرنين، وسقطت بعدها بثلاثة قرون، أي أن هناك خمسة قرون من القمع العثماني للشيعة العرب والترك والقوقاز، لم تكن فيها الدولة الصفوية موجودة، وأن السياسات التوسعية الاستعمارية للعثمانيين واحتلالهم البلدان العربية، وعداءهم لمذهب أهل البيت وقمعهم الشيعة لاعلاقة له بالصفويين إطلاقاً، ولاعلاقة له بوجود أو عدم وجود دولة شيعية أو حراك شيعي أو عدم وجوده، إنما هو جزء من التقاليد والأعراف الثابتة للدول الطائفية، على مر القرون، سواء الدولة العثمانية أو الدول الطائفية التي سبقتها وأعقبتها.
ومن يقوم بهذا التزوير؛ لايحترم عقول الناس، ويعمل على استغفالهم، والتغطية على اضطهاد الدولة العثمانية وغيرها من الأنظمة الطائفية للشيعة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يعمل على إبقاء ظهور الشيعة العرب مكشوفة من أي غطاء وحماية، خاصة وأنهم يعيشون في ظل أنظمة طائفية لاترحم، ويمنع حصول أي تحالف شيعي – شيعي، أو احتماء شيعي بالدولة الشيعية الوحيدة. ولعل من يقرأ التاريخ جيداً، يعرف ماذا جرى على الشيعة من مجازر تاريخية رهيبة بمجرد ضعف الدولة الصفوية وسقوطها، وخاصة ما فعله الاوزبك والبشتون في أفغانستان والهند، وما فعله العثمانيون بشيعة العراق ولبنان وسورية وتركيا وآذربيجان والقوقار.
وإذا قبلنا جدلاً بمعادلة الصراع العثماني الصفوي؛ فلماذا لم يوقف العثمانيون قمعهم واضطهادهم للشيعة بعد سقوط الدولة الصفوية في العام 1722 ؟!؛ فقد استمرت مجازر العثمانيين ضد الشيعة العرب بأبشع ما يمكن تصوره، وكان ختامها مجزرتهم الرهيبة في مدينة الحلة العراقية في العام 1915، حين استباحوها ثلاثة أيام، وقتلوا الرجال واغتصبوا النساء وهدموا البيوت وأحرقوا الأسواق؛ فهل كانت هناك دولة صفوية أو صراع مع الفرس أو أطماع إيرانية؟!
وبناءً على وعي الشيعة العرب والقوقاز والهنود بحقائق الصراع وأهمية التحالف مع الدولة الصفوية والاحتماء بها، كونها الدولة الشيعية الوحيدة؛ فإن التاريخ لم يسجل مواقف سلبية من علماء الدين والنخب والشعوب الشيعية ضد الدولة الصفوية حينها. أما المواقف السلبية لبعض من يسمون أنفسهم المستنيرين الليبراليين والعلمانيين والقوميين الشيعة؛ فقد ظهرت في القرن العشرين فقط، وهي متأثرة بالدعاية الطائفية العثمانية والدعاية الطائفية القومية من جهة، وهو ما حصل في العراق، حين ظهرت بعض الأقلام المتأثرة بالأفكار الطائفية لساطع الحصري ومعروف الرصافي وغيرهما، ثم السلوك العارفي وسياسات حزب البعث. كما ظهرت في إيران أيضاً متأثرة بالمدارس الاستشراقية والفكرية والأكاديمية الغربية، وكان أبرز رموزها أحمد كسروي وعلي أكبر حلمي زادة وعلي شريعتي.
بيد أن الحملة الدعائية ضد الدولة الصفوية، تزايدت بعد العام 1979، وراحت تعمل على تكريس مصطلحات *التشيع العربي والتشيع العلوي والتشيع العراقي والتشيع الفارسي والتشيع الصفوي*، وهي حملة شرسة ومكثفة، تنطوي على أهداف طائفية سياسية عميقة متجددة، وهي لاتستهدف الدولة الصفوية بتاتاً، بل تستهدف النهضة الشيعية الجديدة وعصرها وقيامتها، عبر تشبيه الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالدولة الصفوية، وتشيعها بالتشيع الصفوي أو الفارسي، وهي إعادة لنفس سيناريو العثمانيين وأتباعهم الطائفيين، والذي يهدف الى تمزيق الواقع الشيعي ونسيجه وعالميته، ورفع الحماية والغطاء عنه، وإعادة الشيعة الى مرحلة ما قبل العام 1979؛ حین کان الشيعي في كل البلدان يعيش مرحلة انعدام الوزن، والقمع والقهر والتشريد والقتل والتهميش والاقصاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ