معروف ، ان علم الاقتصاد لديه تأثير كبير على مختلف مناحي الحياة ، فهو أحد المحركات الرئيسة لحياة الشعوب، وأولئك الذين قاموا بتطوير الفكر الاقتصادي على مدار التاريخ لا تزال أفكارهم مؤثرة بمختلف الاجيال ، لكنها بقيت حبيسة الكتب المختصة بيد النخبة من المختصين ، بسبب ابتعاد علماء الاقتصاد عن لغة الادب ذات السلاسة التي يرحب بها عموم المواطنين ، ولم نجد إلا النزر اليسير من خبراء الاقتصاد والمال من هوى الادب ، وكتب بلغة مبسطة، لكنها عميقة الاثر في وجدان القارئ ، لكني وجدتُ في كتابات د. مظهر محمد صالح ، نموذجا في المقدرة على المزج بين لغة الارقام ذات الرنين الصعب ، وبين لغة شفيفة محببة ، وتلك خاصية ، يلمسها من تابع كتابات الرجل ..
وصدق احساسي وانا اقرأ له ، أن الأدب والاقتصاد لا ينبغي أن يتغذيا من الشر بل من الخير، وليس من القسوة بل من العدل، ولا يوجد أديب واقتصادي نبيل ، يمكن أن يتجاهل معاناة البشرية، ويغض الطرف عن الظلم، ويفتري على الحقائق ..
وهنا اقول ، ان د. مظهر كان بارعا في اللغة والكلمات السهلة الممتنعة ، وبراعته لم تقتصر على ذلك فقط ؛ بل كان رجلا لم يفقد براءته الطفولية مهما بلغ عمره ، ويظهر هذا بوضوح في يومياته العذبة غير الاقتصادية المنشورة .
ففي يومية من يومياته في مرحلة دراسته في الخارج يكتب بأسلوب ادبي جميل : ( كانت ليلة من اشد ليالي شمال اميركا بردا واكثرها عصفاً ولم تتركها الموجات الثلجية حتى اضحت الاشياء متدثرة قبل الارض في لحاف ثلجي ابيض .انها الرقائق البيضاء الناعمة القاسية التي حفرت في ذاكرتي يومها تساؤلاً كيف ستسير الحياة الدراسية في اليوم التالي؟ .
فاجأني النهار الذي اتسم بلمعان رقائق الثلج نفسها التي بدت اكثر سكونا واعلى هدوءّ لتطل علينا الظواهر الاجتماعية بمفاجأة غير متوقعة وهي هياج الطلبة وتحركهم بشكل انساق غير مألوفة الحركة .. الخ ).
وفي وصف جميل ، عن سلوك المستهلكين في بغداد قبل نحو 70 سنة يقول د. مظهر : ( الزمان هو صيف أواخر اربعينيات القرن الماضي عندما سارت شاحنة متوسطة الحجم غريبة الشكل في تكنولوجيتها لم يعتاد عليها سكان بغداد وقت ذاك وتوقفت رويداً بمحاذاة ساحة الامين الشهيرة في جانب الرصافة ببغداد ليترجل منها شاب اجنبي امريكي الجنسية طويل القامة الهبت شمس العراق جسده الابيض ليتوهج احمراراً وهو يرتدي سروال عمل قصير، وابتدأ يُعلن من خلال مرافقه وباللهجة البغدادية: ان الشاحنة ممتلئة بمشروب غازي جديد قد دخل إنتاجه البلاد للمرة الاولى وجرى تصنيعه في العراق وسيوزع اليوم عليكم مجاناً. هنا هرع الجميع من مختلف الرجال والصبية والنسوة في اكتظاظ غير منظم خلف الشاحنة ما اثار دهشة ممثل الشركة الاجنبي وطلب من الحشود الانتظام بطابور كي يأخذ كل ذي حق حقه . بيد ان العم ابراهيم وهو اكبرهم سناً قد اصيب بالفضول وهو يملأ عينيه بوجه ذلك الشاب الذي الهبته حرارة سماء بغداد حماساً ، في حين ان العم ابراهيم نفسه قد اغرقت انفاسه موجة العطش حتى يتمكن من تناول ذلك المشروب الجديد الذي سيوزع مجاناً. ظل العم ابراهيم يحدق عينيه في تلك القنينة الزجاجية الباردة كأنها بحيرة من المرايا)
وقرأت له عمودا اعجبني جدا : (في مساء شديد البرودة من العام 2011 سار قاربنا جميل التصميم والغريب الاطوار منطلقا بقوة هادئة في محيط قنوات مدينة امستردام الهولندية في وقت اخذت فيه انوار المدينة المكتظة بأبنيتها الجميلة على ضفتي الانهر والجداول والقنوات المتقاطعة، التي مررنا فيها ، تسطع بألوانها، جاعلة من امواج المياه التي تلونت بالوان الاشعة اللامعة الصادرة من الابنية المحيطة ونوافذها المطلة، لوحة فنية متشابكة الالوان لا يحل لغزها الا فنان هولندا التشكيلي “رامبرانت” في اثناء توجهنا لزيارة مسكنه التاريخي الذي يقع على مقربة من واحدة من انهر امستردام .. الخ )
وينهي عموده بالقول : ( .. لا اريد من اتباع مدرسة رامبرانت في الفنون التشكيلية العراقية الا ان يرسموا لنا لوحة اسمها العراق ، على ان تكون موادها فخارية مصنوعة من طين العراق ومياهه وتحكي قصة حضارة وادي الرافدين قبل ان ترسم على قطعة بلاستيكية جاهزة من مخلفات مقايضة النفط بالماء !!)
وتكثر المقالات الادبية والانسانية التي امامي للدكتور مظهر ، لكن حيز العمود لا يسمح ، ربما يضمها كتاب اعده للنشر لاحقا عن علاقة الادب بالاقتصاد .. ايهما يسبق الآخر .