أن هذه السلسلة التي أبدأها اليوم والتي تحاول كشف بعض جوانب طبيعة المجتمع العراقي مأخوذة من الكتاب الذي أنتهينا للتو منه أنا وزميلتي ميشيل كيلفاند أستاذة السلوك الأجتماعي في جامعة ستانفورد الأميركية،ولم ينشر بعد.وهو يستند الى دراسة تجريبية ميدانية للمجتمع العراقي أمتدت لثلاث سنوات تقريباً. سأتناول في كل مقال جانب من جوانب الأجتماع العراقي أبدأها اليوم بمفهوم شاع كثيراً بين العامة،وحتى بعض المختصين هو مفهوم الشخصية العراقية. لم يكتف أرسطو بالقول أن الإنسان هو حيوان اجتماعي بطبعه، بل زاد عليه قائلاً أن الفرد غير الاجتماعي بطبعه،هو أما خارج نطاق إدراكنا او هو أكثر من كونه إنسان ?لأن الإنسان لا يمكنه العيش لوحده. ولم يكتف ابن خلدون بالتأكيد على الحاجات الاجتماعية للإنسان حينما قال أن الإنسان مدني بطبعه، بل استفاض في مقدمته في شرح الحاجات الاقتصادية والسياسية للاجتماع البشري الذي أسماه (العمران) والذي لا يمكن أن يتم دون تعاون يضمن أشباع تلك الحاجات وهذا التعاون لا يمكن أن يتم دون وجود وازع(سلطة).

ان حديث ابن خلدون ومن جاء بعده من علماء الاجتماع عن ضرورات تنظيم الاجتماع البشري ضمن المجموعات التي ينشأ فيها ذلك الاجتماع، يعني ضمناً نشوء عادات وقيم ومعايير اجتماعية تنظم ذلك التفاعل الإنساني الاجتماعي. أطلق البعض على هذه القيم والعادات والمعايير الأجتماعية التي تسود في مجتمع ما ويتبناها أفراده بالشخصية الوطنية National Character. تعرف الشخصية الوطنية بأنها مجموعة السمات الشخصية التي تصف شعب معين .كما تعرف بأنها مجموعة الخصائص والصفات السلوكية التي يتسم بها كل سكان شعب ما او غالبيتهم .وقد تبنى الكثيرون ومنهم أستاذنا الوردي هذا المفهوم حين قال ” أن الأفراد الذين يعيشون في مجتمع معين يتشابهون في بعض الخصائص التي تميزهم عن غيرهم من أبناء المجتمعات الأخرى. وإننا بالرغم مما نلاحظه بين أفراد المجتمع الواحد من تباين وتفاوت، نراهم مشتركين في صفة عامة تجعلهم يختلفون عن غيرهم في فوارق شخصية واضحة” .

لقد خضع مفهوم الشخصية الوطنية أو الجماعية إلى انتقادات كثيرة منذ أواسط القرن العشرين بسبب المشاكل الكثيرة الناجمة عن تبني هذا المفهوم علمياً.وتركزت الأنتقادات حول علمية وأخلاقية المفهوم. فقد تم أنتقاد المفهوم علمياً لأنه يتبنى مفهوما تنميطياً للسلوك الانساني ثبت علمياً في أكثر من دراسة عدم وجوده. واستنادا الى دراسة علمية تجريبية، فقد توصل أحد الباحثين إلى استنتاج مفاده ان ما يعتبر سمات للشخصية الوطنية، ما هو في الواقع الا مجموعة تعميمات نمطية نادراً ما تكون صحيحة او دقيقة. ولطالما عانينا في العراق من كثرة الحديث والتعميم (بخاصة السلبي) بخصوص الشخصية العراقية فهي تارةً مزدوجة،وأخرى مأزومة،وثالثة “بدوية” ورابعة متملقة “لوكية”،وخامسة “عشائرية” وغير ذلك من الصفات التي بات البعض يتشدق بها دون وعي بمعناها ولا هو أختبر فحواها! وفي معظم الحالات لا تستند تلك الأحاديث إلى منهجية علمية رصينة، بل تستند إلى ملاحظات ورؤى شخصية للمتحثين و(المتفيهقين). وصار كل من يريد أن يقال عنه(مثقف) أو (متحجي) يطلق مصطلحاً يعجبه، والأدهى أنه ينسبه أحياناً لكاتب(كالوردي) أو سواه دون أي مصداقية.

الشخصية الجماعية

أما المجموعة الثانية من الأنتقادات التي وجهت لمصطلح الشخصية الجماعية فهي أنتقادات أخلاقية. فتاريخ الكتابة عن شخصية الدول والمجتمعات في العالم،يرتبط مع الحروب والغزوات التي خاضتها الدول ضد بعضها البعض.وكان الكتاب يحاولون دائما تبسيط الامور لقادتهم فيقولون هذا شعب بربري أو جبان أو غيرها من الصفات. وغالباً ما أُطلقت تلك الصفات من قبل اشخاص يكنون العداء لذلك الشعب، أو يرون أنفسهم أكثر ثقافةً وتحضراً منه. لذا جاءت كثير من الكتابات عن الشخصية الخاصة بشعب ما او أمة ما، مليئة بالتمييز العنصري والثقافي فيقال هذه شعوب متحضرة وأخرى متخلفة وثالثة غربية (أي متطورة) وهكذا. وفي العراق طالما أستُخدمت مصطلحات شروكي،وجرياوي،ومعيدي،وسواها من المصطلحات للتمييز بين العراقيين بأدعاء أن هناك مجموعة أفضل هي”الناجية”.

من هنا رفضنا أستخدام مصطلح الشخصية العراقية في كتابنا وأستبدلناه بمصطلح أكثر علميةً وأقل أنتقاداً هو مصطلح الثقافة الأجتماعية العراقية،والذي سبق لأستاذنا الوردي أستخدامه قبل أن يتخلى عنه لصالح مصطلح “التراثية”. فما هي الثقافة الأجتماعية العراقية؟ وكيف تشكلت وأثرت في سلوكنا وعلاقاتنا الأجتماعية؟وماهي علاقتها بكثير من الظواهر الأجتماعية كالطائفية،والشخصية الجمعية،ونظرية المؤامرة،والعشائرية،والفساد وغيرها من الجوانب البارزة في حباتنا. هذا ما سنناقشه تباعاً في الحلقات القادمة أن شاء الله.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *