لعل كثيرا من قصائد النثر اليوم مازالت تحكمها منطلقات و ذهنية ” الشعرية الشفاهية ” بكل مؤشراتها الإيقاعية ( وليس الوزنية المرتبطة بالتفاعيل ) ، وكذا مؤشراتها البلاغية المرتبطة بالعلاقات الاستبدالية والتماثلية ، ناهيك عن رؤيا للعالم ولوظيفة الشعر ذات صلة وثيقة بهذه الذهنية .
قصيدة النثر لم تعد” شكلا شعريا ” في مقابل ” الشعر” كجنس ولا في مقابل ” النثر ” كجنس أدبي أيضا كما حسم في ذلك Benoît conort 1 . وبالتالي خروجها عن الوزنية العددية لم يكن سوى نصف الكأس ، بينما النصف الفارغ لن يظل فارغا إلى ما لا نهاية . ولذلك سيسعى شعراء قصيدة النثر إلى تجاوز الفراغ بتطوير لغة شعرية تتجاوز شعرية النص الشفاهي والدخول مباشرة إلى ذهنية النص المكتوب الذي سيفرض بلاغته الجديدة المرتبطة بإيقاعية النثر . وبالتالي تجاوز عقدة ” النص الهجين” أو ” القصيدة الخنثى ” 2 أو ” الشكل الشعري” إلى كتابة مختلفة تعمل على هدم الحدود بين الأجناس . كتابة لا تعتمد حاسة السمع فقط المرتبطة بالمرحلة الشفاهية وإنما تخاطب جميع الحواس في جدلية الأبيض والأسود وجدلية الكتابة والمحو، وتؤسس بالتالي لمفهوم جديد لمؤسسة التلقي .
الخروج من دائرة الأزمة التي وصل إليها كل من الشعر والنثر 3 سيفرض توجها جديدا للكتابة :
على مستوى التشكيل اللغوي كان التخلص من غلواء البهرجة والاستعارات والتشابيه التقليدية والاقتراب اكثر من لغة اليومي أمرا حتميا ، في محاولة محمومة لتحطيم الحد الأجناسي حيث سيكتسح التسريد تخوم الخطاب الشعري ليفرض أهم ملمح لقصيدة النثر والذي أضحى مؤشرا مؤسسا ؛ يتعلق الأمر بمؤشر البساطة الذي أصبح عنوانا لها : بساطة السرد بما يعنيه ذلك من تخل تام عن البهرجة وسلطة البلاغة التقليدية والاستعارات البعيدة .
على مستوى الايقاع لم يعد الإيقاع الخارجي المفروض على النص قادرا على تقديم إجابة شافية عن انفتاح النص وتوثبه وتشعبه وتداخل أجناسيته لذلك كان لا بد من تطوير إيقاعية جديدة أكثر تنوعا وثراء
على مستوى الرؤيا سيتحول النص إلى حامل بصري كاليغرافي يقدم مشاريع للتأمل وأرضيات لمحاورة العالم من خلال اللغة . بعيدا عن الزعيق والصراخ ، مما سيتطلب إنتاج لغة تتناص كلية مع التصور السينمائي في بناء سرد بصري بتقنيات المونتاج والكتابة السينوغرافية .
وعليه يمكن إبداء الملاحظات التالية من خلال استقراء مجموعة من النصوص والأعمال المنشورة :
_ الصراخ المرتبط باساليب النداء والمناجاة الذي مازلنا نراه في كثير من النصوص مظهر مرتبط أشد الارتباط بالشعرية الشفاهية .
_ الاحتفال بالقوافي مرتبط بالشعرية الشفاهية ومظهر من مظاهر الترسب الايقاعي التقليدي الذي مازلنا نصادفه في كثير من النصوص التي يدعي أصحابها أنها قصائد نثر
_ التشابيه والإفراط في البهرجة والاستعارات مرتبط ببلاغة الذهنية الشفاهية التي كانت ترى في المجازات القائمة على التماثل والتشبيه والاستبدال جوابا بلاغيا ، ومعادلا فنيا وموضوعيا للمرحلة الشفاهية
_ تعدد المواضيع وحضور مفهوم الغرض الشعري مرتبط بالذهنية الشفاهية
_ تقديم الحكمة والموعظة و الارشاد مرتبط بالذهنية الشفاهية
_ شكل الكتابة واعتماد السطر الشعري كوحدة دلالية وصوتية من أهم ترسبات قصيدة الشعر الحر . في الوقت الذي تتجه فيه قصيدة النثر إلى تجاوز التصور التقليدي الشفاهي وتثبيت كتابة مختلفة تجنح نحو ” التنثير ” والشعر الخالص باعتماد مؤشر الكتلة ومفهوم الجملة الشعرية .
غير أنه لا بد من الإشارة إلى نقط مضيئة جدا في سماء قصيدة النثر وهي أصوات أعطت لقصيدة النثر حضورها القوي ليس فقط عربيا بل عالميا أيضا من خلال ترجمتها إلى اللغات الأخرى . وكانت منطلقاتها وأطرها النظرية واعية بدقة المهمة و صعوبة مخاض التحول نحو كتابة ما بعد حداثية هاجسها المغامرة والتجريب والانفتاح على النص العالمي والتجارب التراثية خاصة النص الصوفي التأملي . مدعومة أيضا برافعة نقدية على قلتها تواكبها وتحاورها و وتستخلص سماتها وملامحها .