فحقيقة صراع البداوة
يعتقد معظم المؤرخين والكتاب الذين كتبوا عن هذا الموضوع أن صراع البداوة-الحضارة هو قديم قدم الأنسان نفسه. فالسير ولكوكس يعتقد أن قصة ولدي آدم قابيل وهابيل هي تجسيد لهذا الصراع الذي يعتقد الكثيرون أنه ما زال قائماً حتى يومنا هذا. يبدو ان صراع البداوة-الحضارة قديم منذ عهد بابل حيث كان سكان غرب العراق من الكنعانيين يهددون الحياة في العراق حتى وصفهم مؤرخو ذلك العصر بأنهم (بدو مخربين لا يعرفون سكنى البيوت ولا الزراعة ويعتمدون في قوتهم على استخراج الكمأ من البادية وأكل اللحم النيء). واضح من هذا النص التاريخي الذي نقله الاستاذ باقر أن صراع البداوة-الحضارة ضارب في جذور العراق.
أن أهم صفات الثقافة البدوية كما يحددها الوردي هي:العصبية والغزو والمرؤة، وهي جميعها مظاهر للتغالب كما هو واضح . لكن حتى أذا سلمنا بصحة ذلك فلا تبدو هذه الصفات الا أنعكاساً وتعبيراً عن الحاجات الطبيعية التي يرومها أي أنسان بدوياً كان أم حضري، غربي أم شرقي، متعلم أم جاهل.طبقاً لنظرية سلم الحاجات لماسلو فأن كل البشر لهم مجموعات أساسية من الحاجات الانسانية فحين ينحاز البدوي لعصبيته كما يقول الوردي فهو يريد بهذا الانحياز التعبير عن الانتماء لقبيلة تحميه(العصبية) في ظل البيئة القاسية التي يعيشها. أنه ببساطة يعبر عن الحاجة للأمن من خلال التمسك بالعصبية. ثم أنه ككل البشر يريد ان يحقق حاجة التميز significance التي هي أحدى أهم الحاجات الانسانية الموجهة للسلوك من خلال أظهار الشجاعة في الغزو. وهو حين يؤكد على المرؤة كما يعتقد الوردي فكأنما يعبر عن حاجة(تحقيق الذات). كل ذلك يجري ضمن اطار الجماعة التي هي وحدة التفاعل الرئيسة له. وأن بروز نزعة التغالب أنما هي ضرورة تتطلبها طبيعة الحياة الاقتصادية والبيئية للصحراء والتي تجعله يؤمن باللعبة الصفرية ولا يجيد المساومة والتبادل trade off فالبدوي حينما يتغالب أنما يتوائم مع بيئته.
واضح أذاً أن كل من كتب عن هذا الموضوع يعتقد أن الهجرات البدوية للعراق قد أثرت في ثقافة العراقي. وسواء ترك ذلك آثاراً سلبية على ثقافة العراقيين، كما كتب معظم الباحثين، أو سواء أنه لم يؤدِ الى أحداث هذا الاثر السلبي، فأن الثابت هو أن هذه الهجرات وهذا التفاعل مع البيئة الصحراوية قد أوجد منظومتين متجاورتين (ولا نقول متصارعتين) من القيم والمعايير الاجتماعية في العراق. لكن من الناحية العلمية، هل هناك ما يسند هذا الافتراض؟ وهل تم اختبار هذه الفرضية التي طالما رددناها عن تأثير البداوة في الثقافة الاجتماعية للعراقيين؟ هل هناك ثقافة بدوية متمايزة عن ثقافة العراقيين؟ وهل أثرت في الثقافة الاجتماعية العراقية؟ أم أن الموضوع لا يعدو كونه تفسيرات نظرية يمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة.
لقياس تأثير بيئة البداوة(الصحراء)على ثقافة العراقيين فقد جرى افتراض أن أقرب الناس للبداوة هم أولئك الذين يسكنون في المحافظات العراقية القريبة أو المتاخمة للصحراء الغربية كونها المصدر الرئيس للهجرات البدوية للعراق. لذا جرى تطبيق مقياس التوجه الفكري نحو التصلب أو الرخوة(صر) والذي ذكرته في الحلقات السابقة على سكان هذه المحافظات وتمت مقارنة نتائجهم مع نتائج قياس العراقيين في باقي المحافظات(غير المتاخمة للصحراء). أن الأفتراض الذي أنطلقنا منه هو أن سكان المحافظات القريبة من الصحراء،وبحسب منظّري صراع الحضارة-البداوة لا بد أن تكون لديهم طريقة تفكير متباينة عن بقية العراقيين نتيجة تفاعلهم مع البيئة البدوية المحيطة أو نتيجة أصولهم البدوية،فهل أثبتت الأرقام صحة هذا الأفتراض؟