حقيقة صراع البداوة
في الحلقات السابقة ذكرت أن هذه الدراسة هي الأولى من نوعها ليس في العراق حسب بل في العالم،التي تختبر أحصائياً الفروق في التوجهات الفكرية نحو الثقافة الأجتماعية بين سكان تخوم البادية وسكان المدن البعيدة عن البادية. لقد جرى تطبيق مقياس التوجه الفكري نحو التصلب أو الرخوة(صر) على هاتين المجموعتين السكانيتين منطلقين من أفتراض أن سكان المحافظات القريبة من الصحراء،وبحسب منظّري صراع الحضارة-البداوة لا بد أن تكون لديهم طريقة تفكير متباينة عن بقية العراقيين نتيجة تفاعلهم مع البيئة البدوية المحيطة أو نتيجة أصولهم البدوية،فهل أثبتت الأرقام صحة هذا الأفتراض؟
نعم أظهرت أرقام أختبار التوجه الفكري للعراقيين وجود فروق في درجة التصلب الثقافي لصالح سكان المحافظات المتاخمة للصحراء. فالصحراويون(أن جاز التعبير)كانوا أكثر تصلباً بقليل. لكن هذا الفرق لا يبدو مؤثرا من الناحية الإحصائية. بكلمة أخرى فأنه على الرغم مما تبدو عليه ثقافة الصحراء بأنها أكثر تشدداً من ثقافة المدينة لكن هذه الزيادة في التصلب لا تعني أن هناك ثقافتين مختلفتين الأولى صحراوية(بدوية) والأخرى حضرية (مدنية). ولم يقف الموضوع عند أكتشاف عدم وجود فروق ذات دلالة بين ثقافتي مدن تخوم الصحراء والمدن البعيدة عنها، بل أن الأختبارات الأحصائية الأخرى لهذا المتغير لم تظهر أي تأثير لموقع المدينة من الصحراء على الثقافة الأجتماعية لساكنيها.أن هذه النتيجة تضعف كثيراً من أحتمال وجود هذا الصراع بين البداوة والحضارة الذي طالما شغل الباحثين المختصين والمهتمين بالثقافة الاجتماعية العراقية عموماً. فما دامت لا توجد أساساً فروق بين ثقافة سكان هذه المدن فكيف ينشأ صراع الحضارة هذا؟
أن هذه الأرقام تؤكد أن الرؤية الهنتنغتونية(نسبة الى صموئيل هنتنغتون)الخاصة بصراع الحضارات هي ليست خاطئة فيما يخص الحضارات بين الشعوب والدول لكنها خاطئة أيضاً فيما يخص الحضارة-البداوة داخل العراق. وحتى لو كشفت الأرقام والأختبارات عن وجود فروق بين ثقافتي الحضر والبادية، فأن تواجد منظومتين ثقافيتين جنباً الى جنب لا يعني حصول الصراع بينهما بالضرورة، بل يعني حصول تفاعل بينهما يؤدي الى خلق منظومة ثقافة اجتماعية جديدة فيها عناصر من كلا الثقافتين.
أن الصراع يحصل حينما تريد ثقافة ما فرض تقاليدها ومعاييرها على ثقافة أخرى.أو أنه يحصل داخل الفرد حينما تتعارض قيمه وما يعتقده مع معطيات الواقع التي يدركها أو مع ما يفرضه عليه المجتمع أو القانون. ففي الحالة الأولى(التنافر او التعارض بين ما يعتقده ومعطيات الواقع)يحصل ما نسميه بالتنافر الأدراكي cognitive dissonanceفالشخص الذي يؤمن أن التدخين لا يؤثر فعلا في صحته، يحصل له تنافر أدراكي عندما يكتشف حقائق علمية تثبت خطأ أعتقاده. هنا قد يغير من سلوكه لكي يرتاح من هذا الصراع(التنافر الادراكي)،أو يلجأ لأحدى الآليات النفسية المعروفة للتخلص من التنافر الأدراكي.
أما حين يحصل تعارض بين ما يعتقده(مثلا المساواة بين الرجل والمرأة) وبين ما يفرضه المجتمع(مثل عدم حضور الأخ أو الأب زواج البنت) فأن هذا لا يعد صراعاً بين ثقافتين وأنما بين قيم values فردية يؤمن بها الشخص حتى وأن كان من ذات الثقافة (البدوية او الفلاحية أو المدنية) وبين ما تتبناه وتفرضه الجماعة. وكلما كانت المعايير الاجتماعية والثقافة أكثر تصلباً أنتهى الصراع لصالح معايير الجماعة، مالم يكن الفرد مستعداً لتحمل عواقب خروجه عن معايير الجماعة -كما فعلت حين زوّجت أبنتي- أما أذا حُسمت المواجهة سريعاً ودون تفكير طويل لصالح الانتصار للقيم على حساب ثقافة الجماعة فهذا يعني أن الثقافة الاجتماعية رخوة وبالتالي لا توجد لدى الفرد خشية من الانحراف عن معايير الجماعة. نفس الشيء يحصل حين يجد الفرد تعارضاً بين السلوك الذي يختاره(كالتهرب الضريبي أو عدم أحترام قواعد المرور)وبين القانون.فالانتصار لأي منهما لا يعتمد فقط على قيم الشخص، ولا على معايير الجماعة بل يعتمد على خليط من القيم الفردية والمعايير الجماعية ومدى قوة القانون وتطبيقه.
لذا لا يصح القول أن الفرد خالف القانون لأن خلفيته بدوية أو عشائرية، رغم أنهما عاملين مؤثرَين. . أن السلوك الانساني سلوك معقد ولا يمكن تبريره بعامل واحد(كصراع البداوة-الحضارة)حتى وأن كان له تأثير. فالحياة أعقد بكثير من هذه الثنائيات البسيطة التي يحبذها الكثيرون لأنها سهلة ويمكن فهمها وتمريرها ببساطة. لذا فأن تبرير الثقافة الاجتماعية العراقية بثنائية الحضارة/البداوة لا يبدو مقبول من وجهة نظر ثقافة التصلب-الرخاوة(صر) التي نتبناها هنا.