في علم الاثار هناك ما يطلق عليه مصطلح المتحجرات (Fossils) وهي بقايا كائنات حية عاشت في الماضي ثم ماتت وانطمرت بعوامل الطبيعة ومضى عليها الاف او ربما ملايين السنين، حيث تتحول بتقادم الزمن في مكانها الى مواد حجرية او كلسية، ولا اعني هنا الخوض في موضوعة تلك المتحجرات الا ما اقصده في تكلس أصحاب المناصب والإدارات في مكانها حتى وصلوا الى مرحلة من التحجر السلطوي الذي حولهم الى هياكل خشبية مزركشة على الطريقة الهندية، هؤلاء الموظفين السلطويين الذين أحالوا دوائرهم الى مستنقعات اسنة بالفساد، واصابوا بقية العاملين معهم اما بالإحباط او الكسل او الفساد من خلال التصاقهم بكراسي الإدارة.
وتبدوا هذه الظاهرة من متحجرات الإدارة في البلدان المتخلفة سواء كانت غنية ام فقيرة، فهي تعاني من هذا المرض المستشري في مفاصل اداراتها والذي تحول الى مشكلة الاف المدراء العامين والوزراء ووكلائهم الذين التصقوا وتحجروا فوق كراسي او مكاتب الإدارات التي تولوها منذ سنوات مملة وطويلة حتى يخال المرء ان تلك المؤسسات إنما ورثوها من ذويهم حالها حال أي من الأموال المنقولة وغير المنقولة؟
هذا التحجر الإداري او السلطوي جعل أصحابه يتصرفون وكأن مديرياتهم او وزاراتهم ضيعة مملوكة لهم، حيث يوهمون مرؤوسيهم بأنهم نعمة الله عليهم وان لا بديل لهم، بل ان البديل هو خراب تلك الدوائر، وتتضح هذه الظاهرة في العراق ومعظم البلدان الشرق أوسطية، حيث ينتاب ذلك المسؤول شعور طاغ من النرجسية والتشبث بالموقع والشعور بالسلطنة، حيث ادمنت تلك الإدارات العامة والعليا وحتى الصغيرة منها مواقعها حتى أصبحت ممالك صغيرة ضمن الدولة يتصرف فيها المدير او المسؤول وكأنه وارث الدولة في تلك المؤسسة، وربما كان ذلك مبررا ايام النظام السابق لشموليته رغم ان رئيسه كان لا يثق ببقاء أي مسؤول فترة طويلة في موقعه خوفا من تبلور أو تكلس مجاميع من الناس حوله ليؤسس شيئا يثير مخاوف النظام، الا ان ما يواجهنا اليوم وبعد عقدين من السنين هو مواصلة الالتصاق السيكوتيني في كراسي الإدارات وبالذات ما دون كرسي الوزير او النائب، وما يترتب على ذلك من انتشار عنقودي للفساد المالي الذي طفح بشكل جعل العراق في مستويات لا يحسد عليها تحت سقف الفساد، في ظل إدارات نافست المياه الراكدة في تعفنها وانتشار رائحتها التي تزكم الأنوف؟
ويبقى السؤال المهم هل التظاهرات التشرينية او غيرها سواء في العراق او بقية بلدان الحبو الديمقراطي والطائفية المقيتة ستنجح في ازاحة هذه المتكلسات من دوائر الدولة وغيرها من المؤسسات التي يعشش فيها وزراء ومدراء ومسؤولين كبار وصغار نمت حولهم عناقيد من بكتريا الفساد ومجاميع من الانتهازيين والوصوليين الذين مسخوا تلك المراكز وحولوها الى إمارات وملكيات شخصية وتسببوا في تأخير نهوض البلاد وتقدمها وإضاعة فرص ذهبية للانتقال الى الضفاف الأخرى مع النخب الكفؤة والأصيلة على حساب الأكثرية من السكان؟