بداية يُقال المثل الشعبي “من برا هالله هالله ومن جوا يعلم الله” على الشخص الذي يبدو من الخارج بكل صفاته ومزاياه المعينة وبأبهى صورة له، أما من الداخل فهو عكس ما يبدو عليه من الخارج، أو كما يُقال في المثل العراقي من برا رخام ومن جوا صخام، وشتان ما بين الرخام والصخام.
وأما تشبيه إعلامنا أنه من الخارج رخام ومن الداخل صخام فهو لسبب واحد أنه وصل إلى درجات عالية من الانحطاط والانحدار بالمحتوى، فقد بات إعلامنا يملتك أدوات ومعدات واستوديوهات واسعة وهائلة برخامها، أما محتواه الداخلي فليس سوى انحطاط وصخام ينحدر بالفكر إلى أدنى مستويات له.
فإعلامنا تحول اليوم إلى مجموعة من الذباب الإلكتروني لصناعة مجموعات سوشل ميديا تضرب فلان أو تعري فلان أو تمتدح وترفع من شأن فلان، متناسية رسالتها وهدفها الأساسي في توعية المتلقي أو المشاهد، فإعلامنا اليوم مصخم بتفننه بتحويله رسالة الإعلام إلى مجرد سلعة إعلانية لبيع منتجات فكرية منتهية الصلاحية لعقول المتلقين، أشبه بمن يبيع الكلمات المخدرة لعقول مراهقة.
واستشهد هنا بمقولة لأحد مخرجي البرامج التلفزيونية الفرنسية الذي قال: “كلما هبط مستوانا الفكري في ما نقدمه من محتوى، كلما زاد معدل متابعة الجمهور”.
وهنا أقول للأسف هذه هي الحقيقة، فالسلطة الإعلامية تعرف أن جمهورها سطحي وسيركض وراء الانحلال والانحطاط، ومن هنا نرى أن مشكلتنا اليوم ليست في نقص الوسائل أو الأدوات أو الطرق بل على العكس إنه الرخام الذي نقول عنه “هالله هالله”، مشكلتنا هي في غياب الغايات والأهداف النبيلة، حتى بات إعلامنا اليوم لا يشوه التاريخ فقط وإنما يصنع أدوات لفسد الحاضر والمستقبل، بمحتوى الصخام الذي لا يعلم سوى الله مدى صخامته.
وهنا أريد أن أطرح سؤالاً مبكياً وقاسياً لأجيالنا الفتية الشابة، أريد أن أسألهم عن أمتنا وتاريخها وقدواتها ورجالاتها ومناراتها، وأنا متأكد أن الجواب سيكون عبارة عن اضمحلالاً وانسحاباً عن الحقيقة التاريخية التي تركها إعلامنا وراح يتراكض وراء عهر العاهرات لجمع التعليقات واللايكات.
إعلامنا من جوا يعلم الله كم هو مصخم ومُدنس ومُلطخ بالأفكار لدرجة أننا بدأنا نفقد مستقبلنا بسبب نسياننا لتاريخنا، إننا نفقد مستقبلنا لا بل بدأت تُعاد صياغته ليتحول إلى وسيلة تسلية وجذب وانبهار وطريقة من طرق ملامسة الغرائز التي تفقدنا الوعي.
إعلامنا اليوم عبارة عن برامج ومواد لفظية إما تسقيطية هجومية فارغة وإما مادة تلامس الغرائز الحيوانية، وما الحل إلا بأن نرتقي بصناعة المحتوى الذي يقدم الفكر بآراء محايدة تصنع التفكير الحر، وأن نعكس واقعنا الحقيقي إلى مادة إعلامية علاجية وليس فقط تصويرية.
أن نطرح الحلول لمشاكلنا أو نثقف أجيالنا بتاريخنا، أن نقدم معايير هويتنا، أن نراعي حقوق الإنسان، لأن الإنسان خلق بطبعه متدرجاً بحاجاته، أن نمنح فرصة لراية الصدق لا للترويج لفلان وعلان في إعلامنا، أو لتسقيط فلان وعلان من سياستنا، لنجعل من إعلامنا مرآة لنا مرآة لعاداتنا وتقاليدنا وثقافتنا وتاريخنا وأن يكون منبراً للسلام والصدق والحرية والديمقراطية فعندها سيكون المواطن لدينا بمحاذاة الوطن وسيسعى خلف سياسته الصادقة حينها، فعندما يسير إعلامنا وفق أُطر ومسارات واضحة المعالم سترانا نتشبث بأوطاننا و لا نتزحزح رضوخاً لأي ضغوطات أو احتياجات وعندما يصبح إعلامنا صادق المعالم سندرك أهمية التكافل وأهمية حبنا لأرضنا وعندها فقط يكون الإعلام رخامياً من داخله وخارجه، وليس كما هو عليه اليوم رخامياً من خارجه فقط ومصخماً من داخله بمحتواه وفكره.