الكاتب سالم روضان الموسوي

 

 

 

(سلبية الأول وإيجابية الثاني)
ان الدستور يعد من التشريعات، إلا انه يسمو على جميع التشريعات الأخرى سواء القوانين أو الأنظمة او التعليمات، وهذا ما أكدته المادة (13/أولاً) من الدستور التي جاء فيها الاتي (يُعدُ هذا الدستور القانون الأسمى والأعلى في العراق، ويكون ملزماً في أنحائه كافة، وبدون استثناء) وبذلك فان صياغته يجب ان تراعى فيها ضوابط صياغة عموم التشريعات، ويرى الدكتور أكرم الوتري الذي قضى ردحا من الزمن يعمل مدونا قانونيا في ديوان التدوين القانوني والذي حل محله مجلس شورى الدولة الحالي احد مكونات وزارة العدل التي تعد جزء من السلطة التنفيذية، فيقول (نستطيع تشبيه تقنين القوانين بالهندسة المعمارية والمقنن بمهندس القانون ومعماره) وعلى وفق ما ورد في بحثه الموسوم (صياغة القوانين المنشور في مجلة القضاء العدد الثالث عام 1971 التي تصدر عن نقابة المحامين في العراق ص)35 ، واثر الصياغة التشريعية عند إصدار الأحكام ويؤدي عدم الوضوح في مفردات النص القانوني إلى صدور اجتهاد قضائي متباين ومتعدد ويخلق مراكز قانونية مختلفة تخالف مبدأ المساواة بين الأفراد، ويرى المختصون في الصياغة الدستورية ان كتابة الدستور تمر بثلاث مراحل 1- الهياكل المكلفة بصياغة الدستور ويقصد بها الجهة المكلفة بذلك وفي العراق كانت هناك لجنة كتابة الدستور التي شكلتها الجمعية الوطنية عام 2004 وتألفت من عدد من السياسيين الممثلين للتيارات القائمة آنذاك (العرب الشيعة والعرب السنة والأكراد).

2- كيفية تحديد مضامين المواد الدستورية وكلفت لجان فرعية وعلى وفق ما ورد في الأعمال التحضيرية التي نشرها مجلس النواب 3- والصياغة القانونية للدستور وهذه تكاد تكون أهمها لأنها تحتاج إلى خبرة فنية عالية في المجال التشريعي واللغوي من اجل ضبط المفاهيم وتركيب الجمل المكونة للنصوص الدستورية، ويقول كاتب فرنسي بان مجرد الكفاية القانونية لا تكفي ليكون صائغاً جيداً للتشريع، وإنما لابد من ان تكون له خبرة عملية في فن الصياغة التشريعية، وكذلك بالنسبة لتشريع القوانين فان الصياغة لها الدور الفعال في جودة النص التشريعي، وتسمى عملية بناء النص التشريعي لا ظهاره بشكله النهائي (الصياغة التشريعية) وكلمة صياغة تعني بأنها تهيئة الشيء وبنائه، فكلمة الصياغة في اللغة مصدرها صاغ، وصاغ الشيء بمعنى هيأهُ على مثال مستقيم ورتبه، وصاغ الكلمة بمعنى بناها من كلمة أخرى على هيئة مخصوصة اصطلاحا بأنها أداة لتحويل المادة الأولية التي تتكون منها القاعدة القانونية إلى قواعد منضبطة محددة وعملية صالحة للتطبيق الفعلي على نحو يحقق الغاية التي يفصح عنها جوهره وهذا ما ذكره احد الباحثين المختصين، اصطلاحا بأنها أداة لتحويل المادة الأولية التي تتكون منها القاعدة القانونية إلى قواعد منضبطة محددة وعملية صالحة للتطبيق الفعلي على نحو يحقق الغاية التي يفصح عنها جوهره، ومن اهم الاثار التي تتعلق بالصياغة التشريعية هو قدرة النص على ضبط المفاهيم وقطع دابر الاجتهاد والتاويل لان بعض النصوص من الركة مما تتيحلمن يتصدى لتفسيرها وتطبيقها الى لوي عنق النص باتجاه رغباته، ولا يلام على ذلك لان في النص سعة توفرها للتاويل باتجاهات مختلفة احياناً، وعندما جعلت المقارنة بين الدستور العراقي النافذ والقانون المدني رقم 40 لسنة 1951 وددت الى بيان الصياغة التشريعية لكيهما واثره في التفسير والتاويل وسأعرض لبعضها على وفق الاتي :
ان الدستور العراقي تمت كتابته وإقراره عام 2005 وخلال اقل من سنة بواسطة مجموعة من السياسيين ورجال القانون الذين عملوا تحت لواء السياسة وليس بوصفهم المهني المستقل والدليل على ذلك ما ورد في الاعمال التحضيرية الذي طبعها مجلس النواب فان جميع الاسماء المشاركة كانت تحت مسمى حزبي او جبهوي او اثني او طائفي، وكان الصراع بينهم واضح لنيل المغانم لجهة انتمائهم، بينما القانون المدني العراقي كتبه رجال القانون بوصفهم المهني المستقل وكان من بينهم أساتذة القانون المختصون في القانون المدني وعلى رأسهم العلامة السنهوري ونوري القاضي ومنير القاضي وغيرهم ، وكبار الحكام في محكمة التمييز وكذلك كبار المحامين في العراق انذاك واستمرت فترة كتابته من عام 1933 وانتهت بإقراره في مجلس النواب عام 1951
ان القانون خلال هذه الفترة الطويلة قد تم دراسته دراسة محكمة فانتج لنا قانون قد صمد بوجه المتغيرات السياسية والاجتماعية وكان مستوعباً لكل التحولات وما زال يمثل العمود الفقري لكل القوانين وعلى درجة عالية من الكفاية التشريعية التي تمنع على المفسر أو المطبق ان يتوسع في الاجتهاد فيه لان نصوصه تم ضبطها بأسلوب لغوي رصين وبألفاظ جزلة واضحت المعنى، بعيدة عن الغموض أو الميوعة التي انعكست ايجابياً على الاحكام القضائية بحيث نرى استقرار قضائي في التطبيق المتعلق بمواد القانون المدني باستثناء بعض الحالات التي صدرت لأسباب لربما لا علاقة لها بنصوصه بينما نجد ان نصوص دستور العراق لعام 2005 فيه من النصوص القابلة للتفسير واحيانا كثيرة للتاويل وذلك لاسباب عدة منها عدم دقة الصياغة للجمل المكونة للنصوص الدستورية او لان تلك النصوص غير مكتملة واعتراها النقص لأنها لم تستوعب ما حصل لاحقاً بعد إقراره ، ومثال ذلك كثرة طلبات التفسير الواردة الى المحكمة الاتحادية من قبل عدة جهات تشريعية وتنفيذية لان النصوص تمنح لكل جهة فرصة التفسير على وفق ما تريد، وهذا أدى إلى وفرة غير معهودة في قرارات تفسيرية أصدرتها المحكمة الاتحادية وهذا يعد من الأمور السلبية لان عدد من فقهاء القانون الدستوري يرون بإن المحكمة الدستورية التي ستنظر في الرقابة على دستورية القوانين وتفسيرها سيجعل منها هيئة عليا لها الحق الوحيد والحصري في رسم السياسة والحكم على اتجاهات المشرع مما يؤدي بالنتيجة إلى تعديل التدرج الهرمي للهيئات العامة على حساب السلطة التشريعية ممثلة بمجلس النواب (البرلمان) بوصفه المعبر عن إرادة الأمة، وأخرون اطلقوا عليها حكومة القضاء، والسبب في هذه الوفرة في قرارات التفسير ناتجة عن عدم صياغة نصوص الدستور بشكل يحفظ له الاستقرار عند التطبيق او التفسير، على عكس ما عليه القانون المدني العراقي.
ان نصوص القانون المدني توفر لها الثبات والاستقرار على الرغم من تطبيقها وتفسيرها من عشرات المحاكم وعلى مختلف أنواعها ودرجاتها ومئات الأشخاص من القضاة الذين يتصدون لإصدار الأحكام المتعلقة بتطبيقات القانون المدني، بينما نجد ان الدستور يتأرجح بين قرار واخر يصدر من محكمة واحدة فتجد إنها تصدر قرارا تفسيرياً ثم تعدل عنه وزاد الأمر في العدول عن الأحكام التي أصدرتها المحكمة الاتحادية العليا بعد ان تبدلت هيئتها القضائية، وخلال عام واحد حصل اكثر من عدول عن قرار كانت المحكمة ذاتها قد أصدرته، ودون توضيح أسباب العدول، وهذا ناجم عن ضعف صياغة النص الدستوري الذي يمنح الهيئة القضائية في المحكمة الاتحادية العليا سلطة العدول وخلال سنة واحد حصلت اكثر من أربعة حالات عدول اخرها إعلان الكتلة الأكبر حيث كان للمحكمة الاتحادية العليا قرارها العدد 25/اتحادية/2010 في 25/3/2010 تفسير يتعلق بتقديمها خلال الجلسة الأولى بينما في قرارها الأخير العدد 7 وموحدتها 9، 10/اتحادية/2022 في 3/2/2022 منحت فرصة أوفر ومدى أوسع عندما أجازت تقديم إعلان الكتلة الأكبر إلى حين انتخاب رئيس الجمهورية وهذا عدول جوهري عن حكم سابق، مما اثر على استقرار العمل الدستوري، لان الجميع صمم أعماله ومسيرته الدستورية على أساس ما قررته المحكمة الاتحادية العليا واذا به يفاجئ بصدور قرار جديد يختلف كليا عن قرارات سابقة أصدرتها، وهذا خلاف حجية أحكامها التي لا تقبل النقض والملزمة للكافة وعلى وفق ما ورد في المادة (94) من الدستور، مع ان مبدأ العدول عن الأحكام ليس ببدعة أو امر جديد على عمل القضاء الدستوري لكن له ضوابط وحدود، منها ان يتم تعديل الدستور فيأتي بمبدأ مغاير لما كان عليه وقت صدور الحكم من المحكمة الدستورية تغير الظروف التي يمر بها المجتمع بعد صدور التشريع وضرورة التجاوب مع الحاجات المستحدثة والمتطورة للمجتمع، وذلك من خلال عدول بعض المحاكم الدستورية عن أحكامها الدستورية ومنها ما قضت به المحكمة الدستورية الإيطالية وبررت ذلك بان القاضي الدستوري جزء من المجتمع الذي يعيش فيه وكذلك المجلس الدستوري الفرنسي لكن لم يستعمل العدول إلا لثلاث مرات خلال الأعوام من 1999 ولغاية عام 2010 وسبب في ذلك العدول هو تعديل الدستور وهذا ما أشار اليهم الدكتور محمود صبحي علي السيد بكتابه الموسوم (الرقابة على دستورية اللوائح دراسة مقارنة ـ منشورات دار النهضة العربية ـ الطبعة الثانية ـ عام 2017 ـ ص1018)
ومن خلال ما تقدم نجد ان صياغة الدستور قد أثرت سلباً على النشاط الدستوري بينما كانت أحكام القانون المدني سبباً للاستقرار القانوني والقضائي عند التطبيق، ولعلاج مشكلة الدستور اقترح الاتي ( تعديل النصوص السائبة والمائعة في الدستور وإبدالها بنصوص اكثر جزالة ودقة وضبط، وإكمال النقص في النصوص التي تعالج الأمور الدستورية التي ظهرت عند التطبيق ولم تتم معالجتها او التحسب لها عند كتابة الدستور) وبغير هذا الحل سوف نبقى تحت رحمة الاجتهاد الذي يذهب به البعض بعيداً إلى حد التأويل، وتعديل الدستور متاح عبر الألية التي رسمها في المادة (126) من الدستور هي من المواد الأصلية في الدستور بمعنى إنها ليس انتقالية محددة بزمن وتنتهي بعد ذلك، وكل الدساتير تضع في نصوصها ما يضمن آليات التعديل وهذا متفق عليه من جميع فقهاء القانون الدستوري، حيث يردد البعض بان تطبيق المادة (26) من الدستور معطل بموجب المادة (142) من الدستور وهذا قول لا يستند إلى أي أساس سليم وقد أوضحته تفصيلاً في الدراسة الموسومة (آليات تعديل الدستور العراقي في ضوء أحكامه النافذة) التي نشرتها صحيفة المدى في أربعة أعداد اخرها العدد4572 الصادر بتاريخ 18/12/2019 فضلا عن صحف أخرى ومواقع الكترونية عديدة، وتكتب تلك التعديلات بيد المختصين في القانون والفقه الدستوري والعلوم الأخرى الساندة، او ان نغتنم فرصة التعديلات التي كتبتها لجنة من المختصين في رئاسة الجمهورية، والمباشرة بإجراءات التعديل لتدارك ذلك الخلل الدستوري وسد الفراغ التشريعي في النصوص الدستورية، حتى نتمكن من الوصول الى ما عليه القانون المدني الذي وحد الاجتهاد وقطع دابر التأويل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *