ان حب الحياة و الكفاح من أجل البقاء والتمتع بالحقوق البدائية للأنسان يجعل من الناس ان يجازفوا بحياتهم من أجل الخلاص من الظلم الاجتماعي و السياسي وما يترتب عليهما من وقع و آثار سلبية على نفوس الناس و واقعهم الحياتي، وهكذا يصل الانسان بعد يأس طويل الی التفكير بالفرار من جحيم دنيوي الى جنة مزعومة في مكان ما كما يتخيله نفسه، ولا يحصل هذا الا اذا شعر الفرد بأنه لا يستطيع تغيير الواقع المعوج من جذوره بل انما ببقاءه سيصبح هو ضحية صامتة. من وجهة نظري تعتبر هذه الخطوة منطقيا و وجها آخرا لممارسة حياة تليق بالانسان، في حين وبالمقابل لا نجد أحدا يهرب من النعيم الی الجحيم.
لنا ان نسأل هنا عن الأصل من الحياة، هل هو الموت أم الحياة نفسها؟ ثم هل ان الموت هو نهاية المطاف لوجود الانسان؟ فما دور الطاقة و علاقته بالنور والتي شكلت منه الروح جوهرها الأبدية لتعيش مطمأنا سعيدا؟ هذه الاسئلة التي حيرت الفلاسفة تجرنا الی صميم موضوعنا والذي يربطنا بالحياة عن طريق الكفاح من أجل الأفضل و عدم القبول و المكوث في بيئة يسودها الظلم و الفوضی و الاذلال والتي تساوي الموت المعذب البطيء، مهددا وجود الانسان بسلب حقوقه و أمانه و آماله، فالترحال والاغتراب المكاني في زماننا هذا انتقلت من حالات فردية الى ظاهرة جيوبولوتيكية بل الأبعد من ذلك، وها هو الامام والشاعر محمد بن إدريس الشافعيّ 150-204هـ / 767-820م يردد على مسامعنا فوائد السفر والترحال الطوعي ناهيك عن الهجرة القسرية و الاضطرارية:
اِرحَل بِنَفسِكَ مِن أَرضٍ تُضامُ بِها
وَلا تَكُن مِن فِراقِ الأَهلِ في حُرَقِ
فَالعَنبَرُ الخامُ رَوثٌ في مَواطِنِهِ
وَفي التَغَرُّبِ مَحمولٌ عَلى العُنُقِ
وَالكُحلُ نَوعٌ مِنَ الأَحجارِ تَنظُرُهُ
في أَرضِهِ وَهوَ مُرميٌّ عَلى الطُرُقِ
لَمّا تَغَرَّبَ حازَ الفَضلَ أَجمَعَهُ
فَصارَ يُحمَلُ بَينَ الجَفنِ وَالحَدَقِ
انا ههنا لا أشجع أحدا على ترك البلاد والعباد للجبابرة كي يعبثوا فيها، لكن الانسان بفطرته اذا لم يصل الأمر عنده الى ذروته لا يفضل الغربة أبدا على وطن تررع و تعلم أبجديات الحياة فيه، فعندما يبلغ السيل الزبى يغامر الانسان بكل ما لديه من أجل الوصول الى مبتغاه، ويترك ما هو عزيز عنده من أجل الحفاظ على وجوده، لكن دون أدنى شك هنالك حالات قليلة لا تذكر مقارنة بالعموم وهم غير مضطرين على الرحيل لكنهم يحذون حذوة الآخرين، لكن أصل العلة موجودة في ديارنا ولها أسبابها الواقعية الجمة، هنا لا أقول ان الهجرة من أجل معرفة الاخرين بنا ضروري لنا ان نجربها كما يقول نزار القباني في (هوامش على دفتر النكسة):
ذقوننا طويلةٌ
نقودنا مجهولةٌ
عيوننا مرافئ الذباب
يا أصدقائي:
جربوا أن تكسروا الأبواب
أن تغسلوا أفكاركم، وتغسلوا الأثواب
يا أصدقائي:
جربوا أن تقرؤوا كتاب..
أن تكتبوا كتاب
أن تزرعوا الحروف، والرمان، والأعناب
أن تبحروا إلى بلاد الثلج والضباب
فالناس يجهلونكم.. في خارج السرداب
الناس يحسبونكم نوعاً من الذئاب…
لعل مقطع فيديو الذي يوثق هروب (أشرف) الصبي المغربي في مقتبل العمر في منتصف هذا العام، وهو يحاول أن يعبر سباحة إلى مدينة سبتة الخاضعة للإدارة الإسبانية، وانهياره بكاء وهو في البحر بعدما باءت مساعيه بالفشل، تعتبر هذه الصورة أبلغ بكثير من عشرات مقالات حول أسباب الهجرة و حال الانسان في مجتمعاتنا التي لا قيمة فيها لوجوده، لا ندري هل يرجع السبب الى ضعفنا كالشعوب أم بطش و جور الحكام؟ أم كما يقولونە الذين يوءمنون بنظريات الموءامرة بأن كل هذا التخلف والاذلال هي انتقام منا بسبب حضارة امتلكناها و مدت عمرانها من الغرب الی الأندلس ومن الشرق الی الصين؟.
نعم، لقد انتشر خبر هذا الصبي في وقته کالنار في الهشيم، لكن سرعان ما مسحت تفاصيله من ذاكرتنا السطحية كسائر الحوادث العرضية، في حين”عبر الشاب سباحة وهو يحيط خصره بعبوات بلاستيكية فارغة، حتى تحميه من مغبة الغرق، واستطاع بالفعل أن يصل لشاطئ مدينة سبتة.
وحاول الشاب أن يستدر عطف الجنديين الإسبانيين، بينما كان يزيل العبوات البلاستيكية، ثم وقف على رمل الشاطئ، وهرع نحو جدار أمامه حتى يتسلقه ويصل إلى سبتة. لكن جنديا إسبانيا هرع على الفور، وقام بإنزال الشاب، وعندئذ، قام جنديان بمرافقته وهو يبكي منتحبا ومتحسرا على ما آل اليه”.
اذا نتعامل مع هذه الحالة کقطعة أدبية بليغة يتطلب منا الوقوف و قراءة ابعادها المختلفة و أشكال معانيها العامة، ترى كم من آلاف موءلفة تطوى صحف قصصهم عندما تصبح التربة التي يموتون عليها قبرهم؟ هل هناك نص شعري أبلغ من هذه الصورة الواقعية-السوريالية؟
وبعد ان سئمنا من السلطات لحلول هذه‌ المعضلة، لن نری في الجانب الاخر من مشهد عالمنا أثرا واقعيا للمثقفين لتداول هذه اللقطات الموءلمة بنزولهم من برجهم العاجي و ألقاء ما في جعبتهم، بناء عليه فلاموقف ولا أمل بأتجاه ضمادة الجراح نحو الحل لهذه الظاهرة المميتة والمقيتة و سائر الاعباء الاخری المتراكمة، فهي هجرة العقول والقوى البناءة في المجتمع نحو المجهول، في حين تتجه ميول الغرب المتحضر نحو العنصرية والكراهية ضد الاجانب، ناهيك عن تخلف النصف الآخر من بقايا الكتلة الشرقية للدول الغربية، اذ تموت الحوامل على حدودها و في الغابات و لا يتحرك فيهم هذه المآسي الانسانية ضميرا و لامشاعرا انسانية، بل يتعاملون مع المهاجرين كمخلوقات الغابة!

وهكذا يضع الشاعر الفلسطيني المرموق شفيق حبيب في قصيدته (مَن يشتري عُـروبتي؟) النقاط على الحروف، و يلخص أسباب انکساراتنا في نصه البديع موجها رسالته الى كل من يهمه الامر و مازال نبض الوجدان حيا داخله:
مَن يشتري الدّمـوعَ والأحـْــزان ْ ؟؟
مَن يشتــري الجَهــاله ..؟؟
مَن يشتــري النـّـــذاله ..؟؟
والفقر َ يستـَبـِد ُّ بالإنســــا ن ْ ؟؟
مَن يشتـــري عروبتي ؟؟
مَن يشتري القبـــور َ
والأصنـــام َ .. والأقــزامَ
والأكـفــــان ْ؟؟
نركـَـــع ُ للقيـــاده ْ
نسجد ُ للقياده ْ …
ونعشق ُ التـّمرُّغ َ المُهين َ كالدّيــدان ْ
ونلحس ُ الأيادي َ المُضـَرَّجَـــه ْ
فعندَنــــا ألسِنـَــة ٌ طويلــة ٌ مـُهَرِّجـــه ْ ،
خيولـُها مُسْتنفَراتٌ مُسْرَجَـــه ْ ،
وهَمـُّهـــا :
تلميع ُ ما قد يحتـذي السـلطان ْ
والفِكـــر ُ في قـُمْقـُمِهِ مُحَنـَّــط ٌ ،
لا يبرح ُ المكـــان ْ ..
لا يعرف ُ الهواءَ والأضواءَ والألوان ْ ..
مُجـَنـَّــــد ٌ لحاكم ٍ..
يمعـَـسُ مَن يدنو إلى حذائِــه ِ المُصــــان
صحيح ان مقومات الحياة الكريمة لا تكتمل بفرد و لا مجموعة افراد الا اذا تحولت هذه الجهود الى نظام عادل، يتحكم بأمور الناس على أساس القسط في المعاملة و تقسيم الحقوق والواجبات، فان اكثار سواد الغرب المتحضر ومقومات تقدمهم لا يرجع الا الى هذه الخصال الحميدة والتي نفقدها كشعوب في عالمنا المحطم: وهم “أحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، و حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك”. أين نحن من كل هذه المعان الجميلة والتوصيات الخالدة؟
ان الفتى أشرف ذا الستة عشر ربيعا هو الوجه الحقيقي لشعوبنا، فهو يحمل همومنا على كتفه هربا الى المجهول حيث يجد ضالته، هو من يمثل الاغلبية الساحقة و الصامتة للجماهير وهو يغامر و يبحث بنفسه عن دواء نافع كي يداوي به جروحه ، يركض نحو الأمل المنشود أو الخيال والمجهول – سميه ما تشاء- غير آبها بأمواج البحار والمخاطر المحدقة، تاركا كل ما لديه من ذكريات أليمـة خلفه دون أن يلتفت اليها؟ هذه هي استجابة نداء فطرة لصبي رغم صغر عمره يتيقن بان الروح قد تموت في ظلماء المجتمع السلطوي و قساوة أولياء الامور الذين لا يفهمون لغة المعاناة للرعية، رغم ان الجسد يعيش لكنه يعاني و يتألم بشكل متواصل على مدار أيام السنة.
فلنرجع الى شاعرنا الريادي الجريء نزار القباني مرة أخرى و نستمع اليه ما يقولە عن هوءلاء الاولياء في (السيرة الذاتية لسياف عربى):
كلما فكرت أن أعتزل السلطة، ينهانى ضميرى
من ترى يحكم بعدى هؤلاء الطيبين؟
من ترى يصلبهم فوق الشجر؟
من ترى يرغمهم أن يعيشوا كالبقر؟
ويموتوا كالبقر؟
كلما فكرت أن أتركهم
فاضت دموعى كغمامة..
وتوكلت على الله …
وقررت أن أركب الشعب..
من الآن.. الى يوم القيامه..

 

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *