أخفقت القوى السياسية المؤدلجة ، في حل جدلية الآيديولوجية و السلطة ، فعلى المستوى التنظيري يتفق منظرو الآيديولوجيات النمطية ، على أن السلطة ليست هدفا بذاتها ، و إنما هي وسيلة لتحقيق الأهداف و تطبيق المباديء والتعاليم التي تنطوي عليها الآيديولوجية و تبشّر بها . و لكن التجارب المتعددة على اختلافها ، كانت على عكس ذلك التنظير ، إذ جسّدت هذه التجارب ، توظيف السلطة للآيديولوجية حيث تحولت السلطة عمليا الى هدف اتخذ من الآيديولوجيات غطاء ، و سخّر المضمون الآيديولوجي لمآرب سياسية ، شخصية أو فئوية ، الأمر الذي انعكس سلبا على الآيديولوجية نفسها و أساء اليها وأفقدها روحها و ثقة الناس بها ورغبتهم فيها .و الأنكى من ذلك ، تجلّي العنف و القمع بوصفه سمة السلوك السياسي لهذه القوى ، و تبريرهما عبر توظيف قسري للمضامين الآيديولوجية على خلاف الأهداف و المباديء التي يجب أن تلعب دورا في ترسيخ إنسانية الإنسان وتطهير المجتمع من المساويء و ضبط السلوك البشري في الاتجاه الصحيح . و بدلا من أن ينخفض التردي و الاضطراب في ظل هذه التجارب ، فإنه يستمر و ربما يتصاعد في وتيرة مؤذية .و هكذا نجد أن هذه التجارب أساءت للمجتمعات و عرّضتها للتوترات والاضطرابات و المآسي ، بدلا من بناء الإنسان و المجتمع بناء حضاريا يحقق الرقي على كل الأصعدة ، على العكس تماما من التنظيرات الرنانة . لقد عالجت الدولة المدنية الحديثة هذه الإشكالية عبر ركنين رئيسين يطبعان عقلية المجتمع و سلوكه :-
الأول :- أن المحورية و الأصالة هي للإنسان بما هو إنسان ، و ليست للآيديولوجيات ، و كل قيم الدولة المدنية و أنظمتها تدور حول محورية الإنسان ، فليس فيها ما يسمح بتوظيفها ضد الإنسان نفسه .
الثاني :- أن السلطة في الدولة المدنية الحديثة هي للمؤسسات و ليس لأفراد أو زعامات ، و كل المواقع فيها ، تشترك في سمتها الوظيفية ، و إن اختلفت في الاعتبارات . و المؤسسات على تنوعها ليست مؤدلجة ولا تعمل بصفة آيديولوجية ، و إنما بصفة وطنية خدمية بحتة في مسار قيم المجتمع المدني وأنظمة الدولة المرتبطة بهذه القيم .وهذا لا يعني أن الدولة المدنية الحديثة هي جمهورية أفلاطون المثالية ، فمن المؤكد وقوع أخطاء و خطايا بحكم نوازع النفس البشرية ، ولكن في الدولة المدنية ، لا مجال لتوظيف آيديولوجية ما لتغطية الخطأ أو تبريره ، بل إن الأنظمة التي تتحرك الدولة المدنية في مساراتها ، ستطوّق الخطأ و تصلحه ، ولا تستطيع أن تقف متفرجة على أو منحازة لذلك الخطأ .إن الدول المؤلجة تحتاج دائما الى قادة مثاليين يقدمون الآيديولوجية على المصالح الأخرى ، و لا يتيسر هذا غالبا لعدة عوامل لسنا بصددها الآن ، فالدولة المؤدلجة تعتمد لنجاحها على مثالية رجالها ، بينما الدولة المدنية الحديثة ، دولة واقعية تعتمد على مثالية قيمها ، و ليس مثالية رجالها ، فمثالية قيمها وفق الركنين المتقدمين ، لا تفسح المجال لرجالها في التلاعب والخروج عن الأنظمة بغطاء و تبرير آيديولوجيين، و تُسارِع في محاسبتهم إذا خرجوا عن تلكم الأنظمة . و هكذا تكون الدولة المدنية الحديثة، هي الحل، والنموذج الأمثل.