بقلم | محمد عبد المجيد
في الثاني من كانون الأول، بعد منتصف الليل في الدقائق الاولى من بداية يوم جديد كانت الامور تجري على عادتها في تلك المدينة، حصص البؤس والفقر والشقاء كانت توزع في الأرجاء وعلى رؤوس الاشهاد كما جرت العادة ولا شيء يذكر عدا تلك البناية التي تشهد العد التنازلي لنهاية الحياة بالنسبة لاحدهم، ففي الدور الرابع كان الكاتب الصغير الذي لم يكد يبلغ العشرين من عمره، يبحث عن ورقة بيضاء صافية وخالية من أي شيء عدا السطور، فقد بلغ السيل الزبى ولم يعد في مقدوره مواصلة الطريق، على جدار الغرفة كانت هناك صورة ملتصقة بالجدار، كانت الصورة لشاب في الخامسة والعشرين من عمره، بشعر قصير وعينين ودودتين وحائرتين كتب عليها بقلم حبر جاف “شهيداً مجيداً باذن الله” كانت الصورة لاخِ الكاتب الذي استشهد قبل سنوات دفاعاً عن هذه المدينة، اخذ الكاتب الورقة ونفس قلم الحبر الذي كتب العبارة على صورة أخيه، نظر
إلى الجبل الكبير الذي يحتضن المدينة كانهما عشيقين خرجا من إحدى اساطير الغرام ، وقرر اخيراً أن يكتب رسالة.
كانت يداه ترتعشان عندما حاول البدء بالكتابة، لم يكن يعلم ما يكتب بالضبط ولكن هذا لا يهم ، المهم الأن أن يكتب رسالته ويوصلها إلى وجهتها، الى معلمه الاكبر غابريل غارسيا ماركيز، اقشعر بدنه عندما عرف أن عليه أن ينهي ما يكتبه –أياً كان– قبل طلوع الفجر، ساعده الخوف من أن يفوت الاوان على كسر الحاجز واقتحام مخدع الكتابة، أخذ نفساً عميقاً وبدأ يكتب كل ما يجول في خاطره دون أن يتمعن فيه
-<< سيد ماركيز، قدوتي ومخلصي، ملاذي ومنفذي إلى عالم الكتابة، لطالما اعتبرتكم اعظم الكُتّاب على وجه الارض، اردت أن اصبح مثلكم يا سيد ماركيز روائي عظيم، ولكن يا للأسف لم تجري الامور كما اردت لها أن تكون، آسف لأنني أُزعجكم برسالتي التافهة هذه ، فمثلي يا سيد ماركيز لن ينال إلا شرف القراءة لاعمالكم العظيمة، ولكن التفكير ليس محظوراً على الفاشلين امثالي، لطالما اردت أن اعرف الظروف التي مررتم بها في حياتكم، فقد سحقتني الحياة كثيراً وتمادت في ذلك، لقد كان يُسعدها ان تدوس على رأسي المعفر بالرمال، فهل تتكرمون حضرتكم بالقاء نظرات خاطفة على هذه الرسالة، ولكم مني جزيل الشكر والعرفان>>.
توقف برهة ليستجمع شتات افكاره، اخرج علبة السجائر من جيب سترته، اشعل إحداها وبدأ يمج منها ،ثم واصل ما قد شرع فيه لتوه.
<<أريد أن أخبركم يا سيد ماركيز، أنني قد شرعتُ منذُ عدة اشهر في كتابة رواية، هي ليست كرواياتكم طبعاً، ولكنها وبكل تاكيد تستحق القراءة، ومن المؤسف أنني اكمالتها يا سيد ماركيز وليتني لم افعل ذلك، فالكتابة لم تكن المعضلة بل ما يأتي بعدها، لم اكملها لأنني املك مثل موهبتكم طبعاً، ولكنني لستُ اقل منكم شاناً، صحيح أن هذه الرواية ليست كرواياتكم، والسبب يا سيدي هو أنني أمر بظروفاً صعبة، رُبما لو مررتم بها حضرتكم لما انجزتم شيئاً مما انجزتموه في ظروفاً اخرى، هل تعرف يا سيد ماركيز ماذا يعني أن تكتب اجزاء الرواية بعد منتصف الليل، رُبّما عرفتم هذا ومررتم به، ولكن لم يكن على حضرتكم الاستيقاظ في ساعات الفجر الأولى لتباشروا عملكم كما ينبغي علي، وبكل تاكيد يا سيد ماركيز لم يكن عليكم أن تقضوا ساعات النهار بلا طعام وتخبروا كل من يلاحظ ذلك أنكم صيام لكي تستطيعوا أن تُعيلوا أسرة، لأنكم لا تتسولون من احد، وتعملون والجوع يمزق بطونكم، وليلاً تشرعون فالكتابة، رغم كل هذه الظروف يا سيد ماركيز وظروفاً اخرى لم اذكرها لكي لا اشغل وقت حضرتكم الثمين بها، لقد كتبت روايتي الأولى وأنا أبن العشرين عاماً لا تزيد ولا تنقص، رُبّما لم تكتبوا يا سيدي رواياتكم الناجحة وحتى التي مزقتموها وأنتم في هذا السن، ومع هذا فقد اكملت روايتي يا سيد ماركيز والحمد لله>>
على رف الكتب كانت مسودة رواية الكاتب الصغير هناك بين “مئة عام من العزلة” و “عن الحب وشياطين أخرى” نظر بكل حسرة البشر إلى الرواية التي لم يقرأها احد، ليس لانها فاشلة بل لانه لم يستطع ايصالها للقراء، ثم عاد مرةً اخرى للكتابة
<<حسناً يا سيد ماركيز، آسفٌ لانني اشغلكم باموري التافهة، فأنا لم أكن شيئاً ذا بال، لستُ سوى فقير كما هو حال الكثير هنا، ارجوا أن لا تسيئوا فهمي فأنا لا اذكر لكم هذا لأستجدي عطفكم، ولكن لاخبركم أنني لا استطيع أن اشتري مُالفاتكم باهظة الثمن – بالنسبة لدخلي المحدود–، فلماذا كنتم تؤلفون تلك الاعمال التي لا يستطيع المرء شرائها، أم انكم يا سيد ماركيز لا تقلون وضاعة – واعذرني على تشبيهي هذا– عن الكثيرين هنا من الاغنياء الذين تؤلفون لهم الكتب>>
كانت يداه متعبتان بعض الشيء، فالحقيقة كان موضوع الرواية يثقل كاهله ويشعره بتعب والارهاق كلما فكر فيه، ومع هذا فقد قرر المقاومة ومواصلة الكتابة
<<لقد حللت هذة المعضلة يا سيد ماركيز، فقد وجدت معلمي الامثل، كان يعيرني كتبكم ورواياتكم بلا مقابل، فقط لكي يستطيع الفقير أن يتعلم، اتذكر كيف وقف يهلل ويستبشر عندما انتهى من قراءة روايتي وقال لي وبكل فخر يمكن أن يشعر به معلم ” أنت ماركيز العرب”، آسف لأنني لم اتجرأ على إخباره أنني لستُ حضرتكم، فلم استطع أن افسد عليه سعادته، فالفرح هنا قليل ولا يحصل عليه المرء بسهولة، كان يؤمن دائماً بأنني موهوب، أما أنا فاؤمن وبشدة بأنني فاشل>>
اسند ظهره الى الجدار وضحك بمرارة وخيل اليه للحظة أنه قادر على رمي كل شيء وراء ظهره والعودة الى معلمه، ولكن فكرة العودة كانت كفيلة بتغيير كل شيء فلم يبق أمل ليعيش عليه ولا يريد أن يجعل حياة المعلم جحيماً، كما فعل مسبقاً، فعاد إلى الورقة لينهي ما بدأه
<<آسف بأنني سافسد على حضرتكم الفرحة يا سيدي، فانتم لستم بحاجة لها، رغم أن الامر لا يعنيكم ولكنني أؤمن وبشدة بانكم ستتاثرون بكتاباتي كما اتاثر أنا بكتاباتكم، فلم أفكر بالكتابة يا سيد ماركيز الى بعد لقاءنا الثاني الذي رتبهُ لنا المعلم في “قصة موت معلن” ، ولكني يا سيدي لم اتمكن من طباعة روايتي كما كنتم تفعلون برواياتكم، فقد تصلبت قدماي وأنا أقف باعتاب اصحاب المناصب العُليا دون أن يتكرم منهم أحد بقراءة الرواية، ربما هم لا يجيدون القراءة إلا ما ندر، فسني الحرب التي تمر بها البلاد كفيلة بأن توصل الحمقى الى اعلى مراتب السلطة>>
عندها تذكر الحاج صالح الذي كان قبل سنوات قليلة يتجر بالمواشي، اما الأن فقد اصبح الحاكم الأول في المدينة بلا مؤهلات سوى انتمائه للحزب الحاكم، ولكن ماذا بمقدور الكاتب أن يفعل سوى الكتابة، لهذا قرر المواصلة
<<لم اقصدهم طمعاً في كرمهم يا سيد ماركيز، بل اردت منهم طباعتها فقط، ففي وطني الصغير الذي ربما لم تقرأوا عنه وربما ولم تعرفوا يوماً بوجوده بين بلدان العالم لا وجود لدور النشر التي لا داعي لها ،فهنا الناس يا سيد ماركيز لا يقرأون رغم أن رسولهم طلبت منه ملائكة السماء أن يقرأ قبل كل شيء، فلمن تراني أكتب بعد اليوم يا سيدي، فوطني الحبيب يقتل احلامنا ولا يدفنها، بل يصلبها ليتسنى للمنكسرين امثالي أن يتباكوا تحت اقدامها المعلقة على الصليب، ولا عزاء في ذالك>>
انحدرت دمعة ساخنة على وجه الكاتب الصغير ولكن لم تمنعه من الكتابه
<<ما يؤلمني يا سيدي هو أن معلمي كان يقف بجانبي دائماً على اعتاب اولئك الأوغاد الذين لا يعرف بعضهم ما معنى رواية، وكنا دائماً نعود بخفي حُنين، اتعرف يا سيد ماركيز عندما اشتدت المعارك لم نرى هؤلاء الاوغاد هنا، فقد هربوا جميعاً إلا من رحم ربك ولم يجد وسيلةً للهرب، ورغم هذا يحنوا عليهم الوطن ويدللهم ليرموا به عندما يشيخ في دار العجائز، اما الفقراء يا سيد ماركيز الذين يقسوا عليهم هم من يبرون بهِ دائماً، ويضحون من اجله إذا تطلب الامر ذلك، فسحقاً لهكذا وطن وسحقاً لنا لاننا لا نستطيع التخلي عنه>>
جالت في مخيلته لعدة لحظات اشهر الحرب التي تدور الان في مكاناً أخر بعيداً عن هذه المدينة، لن يستطع أحدٌ نسيان تلك الأيام، صوت الطائرات والمدافع تسود على ما سواها والاسلحة الرشاشة تظهر حين تخفت الاصوات الأخرى، كان اولى به أن يكمل رسالته على أن يتذكر فالفجر قارب على الطلوع، لهذا عاد من الماضي القريب سريعاً الى رسالته.
<<عندما ذهبتُ ومعلمي يا سيد ماركيز ذات مرة، إلى احد الخنازير البشرية، طلب منا الجنود أن نقف طويلاً على الباب في أنتظار ذلك الكلب الضال ليستيقظ من نومه، وبعد عدة ساعات، بعد أن اتعبنا الشرح لأولئك الجنود عن ما نريده من صاحب الجلالة – الكلب الضال طبعاً – خرج احد الجنود ليطلب منا أن يلقي نظرة على الرواية وفعل، بعد لحظات قليلة القى بالرواية أرضاً واخبرنا انها لا تستحق النشر، اخذنا الرواية وعدنا منكسرين كالعادة إلى ديارنا، كانت علامات السخط والحنق تظهر على وجه معلمي من تصرفات الجندي الاخرق، أما أنا فقد ضحكت رغم المرارة كما لم اضحك من قبل، اتعرفون لماذا يا سيد ماركيز، لقد كان ذلك الجندي الغبي يمسك بالرواية مغلوبة، ويقلّب صفحاتها دون أن يقرأ، كان يبحث عن صورة يمتع بها ناظريه بين صفحات الرواية، لانهُ لا يعلم ماذا تعني رواية>>
عندما نظر الكاتب إلى عقارب الساعة المعلقة على الجدار شعر بالغثيان، الفجر اصبح الأن اقرب من كل شيء، لهذا قرر أن يختصر الرسالة ويكملها في اسرع وقت .
<<المهم يا سيد ماركيز لقد اطلت عليكم كثيراً، ربما كان علي أن ادخل في صلب الموضوع منذُ البداية، فلا يهم حضرتكم ما اسلفت عن ذكره لتوي، فقد اردتُ أن اعتذر منكم في هذه الرسالة، فقد اهنتكم مراراً وتكراراً بدون قصد، كان يطرب أذني سماع معلمي يناديني بـ”ماركيز العرب”، وهذه أهانة بحقكم، فلا ينبغي لفاشلاً مثلي أن ينتحل أسمكم الكريم، فاطلب منكم العفو والصفح عني وعن معلمي إذ اخطانا بحقكم كثيراً بغير قصد، لطالما كنتم أعظم الكُتّاب في نظرنا، ولكم جزيل الشكر مني على وقتكم الذي بذلتموه لتقرأوا ما كتبت>>
كانت الكلمات التي اختتم الكاتب بها الرسالة امر من كل ما قد ذكر فيها، فقد اختتماها بـ
<<خالص ودي
روائي فاشل>>
بعد أن انتهى الكاتب من كتابة الرسالة، أخذ نفساً عميقاً، ووقف بجانب النافذة، اخذ الرسالة بيده اليسرى ودسها في سترته المهترئة، قبل أن يلقي بنفسه بلحظات قليلة من نافذة الدور الرابع التي راء منها امرأة تبحث عن بقايا الطعام التي القى بها الأغنياء لكي تقدم ما تلتقطه لاطفالها صباحاً، وفي هذا الوقت بذات لكي لا يراها أحد، فالناس هنا يرون الخير فقط في بناء المساجد، وامر المرأة واطفالها الصغار لا يعنيهم في شيء، وعندما لم يجد الكاتب الصغير أحداً ليوصل رسالته إلى وجهتها، وخوفاً من أن أحداً لن يقرأ ما يكتب هو مرةً أخرى، قرر أن يوصلها بنفسه الى غابريل غارسيا ماركيز الراحل عن الحياة منذُ زمن