نعى الفاتيكان اليوم 2022/12/31 ، البابا الفخري بندكت السادس عشر ، الذي توفي بعد تدهور حالته الصحية ، عن خمسة و تسعين عاما .

تميّز البابا بندكت بشخصيته العلمية في الدين المسيحي ، فقد تعمق في دراسة اللاهوت و الفلسفة ، و عرف قبل توليه البابوية بسنين طويلة ، بأنه عالم لاهوتي وفيلسوف و متبحر في العقيدة المسيحية ، و كان أستاذا أكاديميا درّس و حاضر في العديد من الجامعات ، و عضوا في العديد من كبرى الأكاديميات ، و هو إضافة الى ذلك كاتب و مؤلف في اللاهوت و الدين المسيحي .

كان عميد مجمع العقيدة و الإيمان في الفاتيكان منذ سنة 2005-1981 ، ورئيس المجمع الدولي للاهوتيين من 2005-1982، و رئيس اللجنة البابوية للكتاب المقدس من 2005-1981، و هذه كلها مناصب يتكرس فيها البعد العلمي اللاهوتي ، وتعكس الشخصية العلمية اللاهوتية للبابا بندكت . و عادة مثل هذه الشخصيات لا تجد ذاتها في المناصب القيادية ذات الطابع الإداري و الجماهيري العام ، و لذا سرعان ما بادر في سابقة لم تحدث في الفاتيكان منذ ستة قرون ، الى الاستقالة من منصب البابوية ، و انتقل الى دير في حدائق الفاتيكان للصلاة و التأمل ، الأمر الذي كشف البعد الصوفي له ، الذي تجسد في الزهد بالمنصب والمظاهر الدنيوية .

عرف عن البابا بندكت السادس عشر ، اتجاهه المحافظ ، و تمسكه بمباديء الكنيسة و تعاليمها و خطها التقليدي ، و قد كان صارما إزاء قضايا الإجهاض وموانع الحمل و المثلية الجنسية ، و العلاقة بين الرجل و المرأة ، مؤكدا على حصر الحب في العلاقات الزوجية .

لقد كان البابا الراحل ، شديد الإيمان بعقيدته المسيحية الكاثوليكية مخلصا لها ، لكنه في الوقت نفسه ، حث على حوار الأديان ، و أكد على الحرية الدينية ، وأصدر بيانا مشتركا مع بطريرك بطريركية القسطنطينية المسكونية برثلماوس الأول ، لرأب الصدع بين الكنيسة الكاثوليكية و كنيسة القسطنطينية الأرثوذكسية . و في عهد بابويته خلص المجمع المسكوني في الفاتيكان ، الى قرارات مهمة منها إعلان اللغة العربية ضمن اللغات الأساسية المعتمدة في الكرسي الرسولي ، والدعوة لتفعيل حوار الأديان ، و رفض فكرة أرض الميعاد لدى الديانة اليهودية والمطالبة بحل الدولتين و إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الذي حدث في 1967 والانسحاب من الجولان و مزارع شبعا ، و الى الرفض التام لمعاداة السامية والإسلاموفوبيا ، و التأكيد على أن المسيحيين العرب هم جزء أساسي من الوطن العربي .

بيد أن محاضرته في ألمانيا ، و التي أشار فيها الى ما أسماه بآيات القتال في القرآن ، مستشهدا بكلام لإمبراطور بيزنطي في حواره مع مفكر فارسي يقول فيه إن محمدا أمر بنشر الدين بالسيف ، أثارت سخطا شديدا في العالم الإسلامي ، و حدثت مظاهرات و احتجاجات تندد بهذا الطعن في مختلف الأوساط المسلمة . و الحقيقة أن البابا بندكت و في موقعه في الفاتيكان و في بواكير حبريته ، كان يجب أن يتجنب هذا اللون من الإثارة الغير مدروسة ، و الذي يفتح الباب على نصوص و سلوكيات تاريخية بشعة محسوبة على أديان و منها المسيحية . و قد حاول البابا استدراك ذلك باللقاء بسبعة عشر سفيرا من سفراء الدول الإسلامية المعتمدين في الفاتيكان ، مبديا أسفه ، و مؤكدا على المشتركات بين المسيحية والإسلام . و مع ذلك فقد بقيت تلك الكبوة في سجّل البابا الراحل ، مثيرة للانفعال في الذاكرة المسلمة.

لقد انطوت صفحة حياة جوزيف راتزنغر العالم و الأكاديمي اللاهوتي وألأسقف الكنسي الذي تميّز بعلمه الديني و شخصيته الروحية التي لم تمنعه من الانفتاح على الآداب و إتقان عدة لغات غير لغته الأم و الإلمام بعدة لغات أخرى ، والولع بالموسيقى حد إجادة العزف على البيانو و التعلق بمقطوعات موزارت و باخ ، و لكن صفحة بندكت السادس عشر – و هو اللقب الذي اختاره لنفسه بعد تنصيبه بابا الفاتيكان ، فصار بهذا المنصب شخصية عالمية مشهورة – لن تنطوي ، لا سيما و أنه طبع في عهد بابويته بصمات لن تندرس .

{ مفكر و سياسي عراقي مستقل

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *