الأدب أبقى من السياسة، والزعماء والرؤساء يأتون ويذهبون.. ونحن جميعاً نعرف المتنبي، كما يقول الشاعر نزار قباني، لكننا لا نعرف وزيراً واحداً في عصر المتنبي.
نقرأ لعمر الخيام، ونحب شكسبير، ونحلم مع اللورد بايرون، لكننا لا نحفظ أسماء الملوك والوزراء في عصورهم.
وأستاذ الصحافة العربية مصطفى أمين يروي لنا حكاية فيها معان عميقة عن العلاقة بين الأدب والسياسة. يريد أن يقول: إن الأديب أطول عمراً من السياسي والأدب لا ينحني في حضرة السياسة.
فعندما منح الرئيس جمال عبد الناصر قلادة النيل للأديب الكبير توفيق الحكيم، وكانت هذه القلادة من أرفع الأوسمة والنياشين، لا يمنحها إلا للرؤساء والملوك ورموز الثقافة والأدب.
قالت له زوجته: إيّاك أن تخفض رأسك، وتنحني وأنت تصافح رئيس الجمهورية.
قال الحكيم في دهشة: لماذا لا أنحني؟. إنني أنحني وأنا أصافح أيّ إنسان!.
قالت زوجته: إنك عندي أكبر من رئيس الجمهورية.
وذهب توفيق الحكيم إلى التكريم ولم يحن رأسه في ملاقاة عبد الناصر!.
وكان عباس العقاد يسخر من السؤال: لماذا لم يفكر رئيس الوزراء النقراشي في اختياره وزيراً للمعارف؟. كان يقول: إن النقراشي يعلم أنه يُنزِل من قيمته إذا فكَّر في اختياره وزيراً!.
وكان الشاعر محمد حسن أبو المحاسن أول وزير للمعارف في الدولة العراقية في وزارة جعفر العسكري. وكان الفقيه العالم والشاعر محمد رضا الشبيبي وزيراً للمعارف في وزارة نوري السعيد نتغنّى بقصائده الثورية التي ألهمتنا الحماسة.
وقرأت أن رئيس وزراء بريطانيا عرض منصب وزير على أستاذ الأدب في جامعة أكسفورد، فرفض الأستاذ قائلاً: إن منصب أستاذ في جامعة أكسفورد عندي أعلى من منصب رئيس وزراء بريطانيا.
ونحن نعرف عن محمود سامي البارودي أنه شاعر. قرأنا له قصائد جميلة في كتب الأدب والنصوص.. لكن قليلاً منا يعلمون أنه كان رئيس وزراء مصر في ثورة عرابي.
وفي العراق كان أبو “القراءة الخلدونية” ساطع الحصري “أبو خلدون” وزيراً للمعارف. مات الحصري وماتت المعارف، وبقيت “القراءة الخلدونية” التي تعلمنا منها ونحن طلاب في الصف الأول الإبتدائي ألف باء اللغة العربية.
وهناك الشاعر جميل صدقي الزهاوي، شاعر العقل ومعرّي العصر، مثلما وصفه طه حسين. انتخب عضواً في مجلس “المبعوثان” العثماني مرتين، وكذلك الشاعر معروف الرصافي، والجواهري كان نائباً عن كربلاء في المجلس النيابي. والشيخ الشاعر علي الشرقي كان وزيراً ونائباً في مجلس الأعيان. لقد ذهبت هذه المجالس والمناصب كلها، لتبقى قصائد الجواهري والرصافي والزهاوي ما بقي الشعر والنثر.
إذا أردت أن تعرف احترام أية أمة بين الأمم، فاعرف أولاً قيمة الأدب فيها، فإذا وجدت الأديب ينزوي في مؤخرة الصفوف، فإنها أمة في آخر الأمم