المحطة الأولى:

ـ العام 1973 حضرت شابة معدمة الى بيتنا.. وقالت بالحرف الواحد: (أريد عمل.. وقالت ليً: أنت تكدر تعيني).

– نظرتُ اليها.. وكانت لا تحمل أية شهادة دراسية.. وفعلاً كانت بحاجة الى عمل.

– المهم خلال يومين عينتها في معمل البطاريات في منطقة الوزيرة في بغداد.

ـ ظلت هذه البنت تحاول رد فضلي بتقديم هدية ليً.

– وأنا في كل مرة أرجوها مؤكداً: إنني غير محتاج أي شيء.

– وكانت ترغب في إكمال دراستها فانضمت الى صف محو الأمية في المعمل.. واستطاعت بنظام التسريع الحصول على الشهادة الإعدادية.. وانقطعت أخبارها.

ـ العام 1982 كنتُ موفداُ الى بلغاريا لإلقاء محاضرات في معهد جورجي ديمتروف للدراسات النقابية.. وإثناء دعوة الغذاء التي أقامها المعهد على شرف زيارتنا.. تقدمت شابة وسلمت عليً.

– وبدا ليً إنها عراقية.. ابتسمت.. وقالت دكتور: (أنا فلانة.. التي عينتني في معمل البطاريات.. وأنا الآن بزمالة دراسية من وزارة الصناعة ادرس في المعهد لنيل شهادة الماجستير في اقتصاديات العمل.. وأنا من المتفوقات).

– قمتُ من كرسيي احتراماً لجهادها.. فقالت دكتور ألان حلت الهدية.. قلتُ لها عندما تنالين الماجستير تحل الهدية.. وأرجو أن تكون هدية رمزية وبسيطة.. وبغيرها لن استلمها.

ـ في نهاية العام 1983 حضرت الى بيتي مع زوجها.. وهديتها كانت فعلاً رمزية وبسيطة.. لأنها كانت متأكدة لو جلبت هدية غالية لرفضتها.

المحطة الثانية:

– إحدى عصريات شتاء العام 1980 وخلال تجوالي في ساحة بياتزا نافونا.. وسط مدينة روما.. التي يتجمع فيها الفنانون.. شاهدتُ شخصاً ضعيفاً ملابسه خفيفة.. جالساً القرفصاء ويرتجف من شدة البرد.. وأمامه لوحاته التي تعكس رسمه الفاشل.. ألمني وضعهُ فسألتهُ عن سعر لوحاته.. أجابني الواحدة بعشرة دولارات.

– وبعد حديث معه عرفتُ انه عراقي.. وفشل في دراسة الفن أربع سنوات متتالية فطردته الجامعة في روما.. أخذتُ واحدة وأعطيتهُ خمسين دولاراً بدل العشرة.. شكرني كثيراً.. حتى انه انحنى ليً احتراماً.. وبقيتُ في كل مرة أزورُ بها المنطقة أساعدهُ بعشرين دولار أو أكثر.

– في إحدى زياراتي للمنطقة.. ومعي مدير مكتبي فارس.. لم أجد هذا الشخص الذي عرفتُ اسمه (عادل ………. ).. فقال فارس: (دكتور انه مريض بالسكري.. وقد يبقى طريح الفراش عدة أيام.. لعدم قدرته شراء إبرة أنسولين !!).

– فطلبتُ من فارس إيصالنا إلى سكنه.. وفعلاً عرفنا المكان في ضواحي روما.. حيث يسكن في غرفة.. لا يمكن أن أسميها سوى زريبة.

– وجدتهُ في أسوء حال.. وعلى الفور نقلتهُ إلى إحدى المستشفيات.. وعولج على حسابي الخاص.. وأعدتهُ إلى سكنه.. ومنحتهُ 100 دولار.

– بعد مدة قصيرة عينتهُ في السفارة براتب جيد كموظف محلي.. وبعد ستة أشهر على عمله جاءني ترافقه فتاة جزائرية يأمل الزواج منها.. وطلب مساعدتي.

– فأعطيتهُ هدية نقدية جيدة.. واشتريتُ لهما بدلتي عرس وتوابعهما على حسابي الخاص.. وبعد عودته من شهر العسل كلفته بعمل إضافي مقابل مخصصات جيدة لتحسين أحواله.

– كان عادل يردد دائماً أمامي عبارته: (دكتور: كيف أستطيع أن أردً فضلك عليَ؟).. كنتُ أبتسم في وجهه وأقولُ له : (الله كريم).

– وفي أحد الأيام طلبت وزارتي حضوري إلى بغداد لأمر هام.

– وفي بغداد جرى استدعائي إلى جهاز المخابرات.. وبدأ التحقيق معي عن أمورٍ اخطرها إنني في اجتماعي الأخير مع الموظفين: كررت اسم صدام ثلاث مرات مجرداً من عبارات الاحترام والتبجيل.. كما ورد في التحقيق.

– وخلال اعتقالي والتحقيق معي في المخابرات ببغداد.. سرت إشاعة في روما انه حكم عليً بالحبس سبع سنوات.

– كانت والدتي رحمها الله تقول ليً دائماً: (إنكً لن تصابً بضرر أبداً.. ما دمتً لا تظلم أحداً وتعمل الخير للآخرين وتساعد من يحتاج المساعدة).

– وفعلاً كان الله معي في هذه المحنة.. ففي اليوم السادس أطلقوا سراحي.. فذهبتُ إلى الوزارة لأخذ كتاب سفري وأعود إلى عملي.. وهناك أشرت ليً (مديرة الإدارة).. وأغلقت باب مكتبها.. وأطلعتني على كتاب الحكم عليً بالحبس سبع سنوات).. ومرفق معه نسخة من تقرير لعادل.. والذي اعتمدوه في الحكم عليَ.. المهم لم أقم بأي عمل ضد عادل.

– كان بمقدوري أن افصله فوراً.. فقط توقفتُ عن مساعدته تماماً ….. المضحك بعد مدة نقلتُ الى بغداد.. وحال استلام بديلي موقعي أنهى خدمات عادل.

المحطة الثالثة:

– راجعني أحد موظفي دائرة الإعلام الخارجي في أيلول العام 1983.. وهو يحمل أوراق قبوله للدراسة في بلغاريا.. ورجاني انجازها بسرعة.

– المهم انجزناها خلال ساعتين.. بعد أسبوع عاد ليً ليقصً ليً مشكلته (فالفرقة الحزبية أبلغته التحاقه بقاطع الجيش الشعبي.. ورفضت قبول أعذاره كطالب بعثة لدراسة الدكتوراه).. وحجزوا جواز سفره في الفرقة الحزبية.

– وجاءني لأخلصهُ من هذا المأزق.. وقال (إن ابن المسؤول الحزبي.. حالياً طالب مسائي في العلوم السياسية.. وأنت أستاذه.. وكلمة منك كأستاذه يؤجلني للقاطع القادم.. وأكون أنا وقتها في بلغاريا).. وعدته خيراً.

– وفي المساء التقيتُ الطالب وطلبتُ منه كيفية تأجيل (ع . ح) من قاطع الجيش الشعبي.. فوعدني خيراً.. وفعلاً أعفيً (ع . ح) من قاطع الجيش الشعبي.. وسلموه جواز سفره.. وغادر إلى بلغاريا للدراسة وأخذ عروسه.. التي أستطاع قبولها للدراسة العليا معه أيضاً.

– في العام 1986 أعلن عن جوائز تقديرية للعلماء والباحثين المبدعين.. جمعتُ كل كتبي وبحوثي ودراساتي الأصيلة العلمية المنشورة.. وذهبتُ بها إلى وزارة الثقافة والأعلام.. حيث كنتُ متقاعداً من هذه الوزارة منذ العام 1984.

– وفي الوزارة التقتني إحدى الزميلات.. وعرفت موضوعي.. فقالت بسيطة اليوم نكملك المعاملة.. وأضافت وهي مبتسمة (ولو مدير الدائرة المعنية واحد عكرة.. دكتور جديد).

– المهم: دخلنا على المدير العكرة.. كما قالت الزميلة حمدية.. فقدمتني له.. فاٍستقبلني ببرود شديد.. فوجئتُ انه طالب الدكتوراه (ع . ح).

– قالت له حمدية: (نريد كتاب تأييد لأستاذنا العزيز دكتور هادي اليوم).. ردً عليها بحزم: يراد تدقيق كل مؤلفاته من قبل الخبراء.. ولن تنجز بأقل من شهر.

– نظرتُ إليه بإمعان.. وقلتُ له: (الذي أنجز معاملة بعثتك بنفس اليوم.. وأنقذك من قاطع الجيش الشعبي.. سيجلب لك أمراً بإنجازها فوراً).

– حملتُ نتاجاتي الفكرية إلى مكتب الوزير.. الذين رحبوا بيً واتصلوا به هاتفياً.. وأمروه بإنجاز المعاملة فوراً.. وخلال ربع ساعة جلبً المعاملة بيده منجزة.

– نظرتُ إليه ثانيةً.. وقلتُ له: (لم أندم في حياتي عن عمل قمتُ به.. ولو عاد الزمن وجئتً أنت مرة ثانية.. لأنجزتُ لك معاملة بعثتك إلى بلغاريا لدراسة الدكتوراه.. ولأنقذتك من قاطع الجيش الشعبي مرة أخرى).. صمتً ولم يتكلم.

——

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *