انتظرناه ثلاثة عقود ونيف .. كانت سنوات مفعمة بالصبر والأمل، صبراً جميلاً. كتبنا على لوح الدهر بالمسمارية، أرق كلمات الحب، وارقى مفاهيم الحياة، وما كلكامش إلا وحي هذه الابجدية الابدية، وما خطط المعمار إلا وحي الجنائن المعلقة، ورؤى الفلكيين إلا عزم عقولنا على فك اسرار الكون.
صبراً جميلاً .. سماؤنا تمطر عسلاً، وما النخل إلا نحن، وربيعنا إلا احلام الفتيات الذهبيات .. لقد رأى العالم شبعاد، وهي تتزين بفريد حلل الاميرات . وكان خبزنا مغمس بالسمسم وحبة البركة، هو خبز الأرض التي انبثق منها الخليج، وجاء الينا بعد حين كأس البصرة، الملفوف باليشماغ. فقد توحدنا على نحو غير مسبوق، رقصت افلاكنا وانتعش الزرع في الديار، وساد روح الأمل من جديد .. يا اهل العراق انتم العنقاء وسواكم المعجبون والعشاق العابرون.
على نحو عفوي أضاءت أربعة ألوان فقط، ليلنا. وغمرت الشوارع والحارات فرحة جذلى لم تشهدها أعرق ملاعب الكرة على وجه الارض.
ويحق لنا تحدي أي ملعب في بوينس أيرس أو مدريد أو في برشلونة رفع الملايين من المشجعين في مدرجاته علماً بطول وعرض علم العراق، أو هتفت حشوده الهادرة بشعار الفداء للبلد واللاعودة للتجزئة والخذلان والتبعية والقنوط. وأتحدى بلداً في هذا العالم يحتشد على ملعب واحد من ملاعبه جمهور، قبل بدء المباراة بنحو 24 ساعة، يصارع سلطان النوم والانواء وينازع التعب وتصرخ حنجرته بلا هوادة. اي حب هذا الذي يسكن قلوب المشجعين. ولاشك ان المعنى اكبر من الشغف بكرة القدم ورياضاتها، قاطبة. انه عشق العراق والتغني بمآثره وملامحه وكل بقعة فيه: البحر والهور والنهر، والطيور والفراشات والصقور. كل اسم فيه مدعاة للحب والتضحية. وطني لو شغلت الخلد عنه، نازعتني اليه في الخلد نفسي.
لقد تسلقت ألوان العلم العراقي الاكتاف ورافقت الكتل الشبابية الهادرة، وحملتها الايادي وتحولت الى طيور محلقة ترفعها المركبات الصغيرة والكبيرة، التك تك والجيكسارا لا فرق، متباهية بزهوها الخالد وانسجامها الذي حاولت قوى طارئة اظهاره، متصارعاً متضارباً نشازاً بشعاً، أمضيت ليلي أفتش عن اعلام ورايات فرعية، فلم يبتسم في وجهي سوى اهلي، سرايا السخاء وكمال البطولة، وسوى خليجنا واهب اللؤلؤ والمحار. لقد تحولت السمفونية التي عزفها العراقيون الخميس، وقادها المايسترو البارع، الذي هو الضمير العراقي الحي، وابدعها المواطن اليقظ، وسجد في محرابها المحبون دون تردد أو تراجع، الى هوية وعنوان وتجربة ومعنى وسر خالد.
فيا بحرنا الشاسع الممتد من القلب الى عيون المها، ويا نخيلنا الباسق، الرافع هاماتنا الى العلياء والشمم والرطب. ويا عشقنا المرتجى الأبهى الذي لا يشيخ ولايهرم، ويا كأسنا المليئ بالمعتّق الرافديني، ويا أمنا التي لم تنجب البشرية أماً منذ حواء، ولدت أبطالاً مثلنا، ويا عراقنا الذي لا خيار لنا غيره ولا حياة لنا سواه، دم خالداً وعش كريماً، فاننا بك بعد الله نعتصم، ويا كنائسنا التي أقامت قداديس الفوز، ويا قمم جبالنا البيضاء. سألت كؤوس الفن عن ابطالها وسما ملعب جذع النخلة، باسم العراق.
فالخليج العربي يوحدنا