بدت المقهى مهجورة إلا من حركة النادل القوي الذي كان يمسح منضدة منسية بأخير المكان . حييته فرد عليَّ بأحسن منها وعاد ثانية ليزرع يمينه والمنشفة بخاصرة الطاولة الباهتة ومحيطها المطعون بثلمات السنين .
ثمة فرح وشجن صباحي مبكر بدأ بصديقي حسن سائق السرفيس الساكت الذي لم يكلفني هذه المرة عناء الإنصات الإجباري لسلة عشوائية من قصصه المعادة ، والطلب مني أن أكتبها وأنشرها على الناس القارئين .
كان صوت فيروز العظيمة يكحل قهوة الصباح البارد ويضفي عليها طعماً مذهلاً قادماً من أيام غائرة ، ورائحة المكان طيبة كأنها أرض طفولة بعيدة خرجت ولن تعود .
الدهشات الفيروزية التي تتصادى ببطن مقهى زكي كانت رحيمة مثل أصابع أُم تعبث بشعر وليدها المدلل الجميل :
وراحت الأيَّام وشويِّ شويِّ
سكت الطاحون عَـ كتف الميِّ
وجدِّي صار طاحونة ذكريات
تطحن شمس وفيِّ .
بهذا المقطع المذهل من اللمعة الرحبانية العاطرة بدأ الشجن يغزو مائدتي وصار عليَّ أن أستعيد صورة جدي الهائل الذي كان يتلذذ بشواء حبوب القهوة وطحنها ومن ثم غليها على نار هادئة بانتظار أول الزائرين ، لكن صورة المبجلة فيروز وشريكها الرحباني الكبير كانت هي الأعظم ، حيث عبقرية الصورة التي انزاحت كثيراً وصار معها الجد الهرم محض طاحونة ذكريات قد لا يجد من يقصها عليه