ظلت فكرة القدر ومصير الانسان .. ذلك الكائن الغريب على وجه الخليقة مسيطرة على هاجس التفكير بكل العصور .. حتى لجاوا الى كثير من الوسائل والابتداعات لمعرفة كنهه وتحديد مصيره والسيطرة على مجاهيله قدر المستطاع .. فتفحصوا النجوم واثار القدم وخطوط الكف وفنجان القهوة وسيماء الوجوه .. وضربوا التخت واستنطقوا الحجر واستعانوا بالحيوانات والاشباح … وما زالوا على ذات الطريق يبحثون حلا للقلق ..
في القرن الخامس قبل الميلاد كانت اثنيا تعيش اوج حضارة الاغريق وبهذه المرحلة ظهر الفلاسفة بذروة عطائهم وقدسية بعضهم .. بعد ان كان السكان يلجاون الى معبد دلفي والاستماع الى خادمة الاله ابولو التي تجيب عن اسئلتهم المحيرة والغازهم الفكرية بصوت مبحوح غير مفهوم يحاولون استكشاف حاجتهم بين رموزه .. ( الكاهنة بثيا ) أحيانا تتصنع جشاءة الصوت للايهام وهي تربض فوق شق ارضي تتصاعد منه بعض الابخرة والروائح .. مما يعطي زخما وقوة ودفعا للمعتقدين .. حتى ان كهنة المعبد تحولوا الى مستشارين ودبلوماسيين وعرافين لحكام الاغريق لعقود طويلة كانوا لا يعلنوا حربا او سلما ولا يخوضوا معركة الا عبر استشارة كهنة المعبد .
ظلوا يعتقدون بان روحا فوقية هي وراء حسم النتائج بكل شيء .. بما يصب ويوظف دائما بمصلحة المعبد وكهنته الذين يعدون الأقوى باثنيا كلها ولهم قدرة الإطاحة بالخصوم مهما كانت مناصبهم . بعيدا عن ذلك التصور الأسطوري لهيمنة الروح على مقدرات وقدر الانسان .. اخذ علماء التاريخ والطبيعة يبحثون عن مخرج من زوايا أخرى .. تكاد تكون نفسية او طبية او طبيعية .. ففيما كانو يعتقدون راسخا بان المرض هو بلاء وسخط من الاله يتوجب بموجبه على المريض وأهله ان يقدموا الضحايا صاغرين الى ابولو .. ظهر الفيلسوف الطبيب هيبوقراطس 460 ق . م فقال : ( ان الروح السليمة في الجسم السليم ) .. محاولا إيجاد معادلة بسيطة مفادها ان إصابة الانسان بمرض ما .. تعني حتما خروج قطار العمر عن محطاته الطبيعية اثر خلل روحي او جسدي ولا حل الا بالاعتدال ) .
لذا تبلورت رحلة الفكر بالعودة الى الانسان حتى تغيرت معالم الحياة الفكرية والفلسفية بأثينا التي كانت تمثل قمة الحضارة الإنسانية آنذاك .. حتى انهم نقشوا فوق المعبد عبارة تدل على ذلك : ( اعرف نفسك بنفسك ) .. التي تعني ضمن ما تعنيه حتمية زوال الانسان واهمية العودة الى الذات الواعية داخله لمعرفة الكون من خلاله حصرا ..
من هنا تحديدا بدات تنفصل الدراسة العامة متحولة شيئا فشيء الى الانسان وموقعه في المجتمع .. لتشكل نواة الديمقراطية التي تعني ان يكون الشعب مستنيرا .. ويتخلص من الاستغلال العقائدي والجهل المعرفي وربقة اشكال حكم الاستبداد .. ولبلوغ ذلك احتاجت الإنسانية كبشا اسطوريا مهولا ليكون ضحية ذلك البنيان المدني الذي جعل من سقراط ذلك الكبش العظيم . بعد انزاله الفلسفة من عرشها وادخلها كل بيت حتى حاول ترسيخها بعقول الناس وضمائرهم ووجدانهم حتى دفع راسه ثمنا لذلك كما تنبئت خادمة الاله ابولو قبل ذاك قائلة : ( ان سقراط اعرف اهل أثينا ) .. فاستلمها الفيلسوف وحيا معتبرا إياها تكليف سماوي يجب إبلاغه للناس حتى وان تجرع كاس السم الذي كانت نهايته التراجيدية فيه .