في‭ ‬قصةٍ‭ ‬قصيرةٍ‭ ‬جداً‭ ‬كتبتها‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬عاماً،‭ ‬فكرتها‭ ‬عن‭ ‬سائحٍ‭ ‬يدخل‭ ‬إلى‭ ‬مدينةٍ‭ ‬مزدحمةٍ‭ ‬بالمشرَّدين،‭ ‬ترغمهُ‭ ‬مشاعرهُ‭ ‬الرقيقة‭ ‬للتعاطف‭ ‬معهم‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬ثملاً‭ ‬يجوبُ‭ ‬شوارعها،‭ ‬فيهبُ‭ ‬كل‭ ‬مشرَّدٍ‭ ‬يصادفهُ‭ ‬بعض‭ ‬النقود؛‭ ‬ليكتشف‭ ‬أخيرا‭ ‬أنَّ‭ ‬محفظته‭ ‬أصبحتْ‭ ‬فارغة‭ ‬ولا‭ ‬يمتلك‭ ‬حتى‭ ‬ثمن‭ ‬تذكرة‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬بلادهِ،‭ ‬فيقرّرُ‭ ‬البقاء‭ ‬مع‭ ‬المشرَّدين‭ ‬يستجدي‭ ‬النقود‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬جمع‭ ‬ثمن‭ ‬التذكرة‭ ‬التي‭ ‬تعيدهُ‭ ‬إلى‭ ‬دياره‭. ‬تذكَّرتُ‭ ‬تلك‭ ‬القصة‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬أتبضَّع‭ ‬مع‭ ‬زوجتي‭ ‬في‭ ‬أسواق‭ ‬مدينة‭ ‬بيرث‭ ‬الأسترالية،‭ ‬إذْ‭ ‬رأيتُ‭ ‬مشرَّداً‭ ‬بعيون‭ ‬زرق‭ ‬وأسمالٍ‭ ‬باليةٍ‭ ‬على‭ ‬ملامح‭ ‬وجههِ‭ ‬الإجهاد‭ ‬يجلسُ‭ ‬في‭ ‬ركن‭ ‬الشارع‭ ‬وقدْ‭ ‬وضع‭ ‬قطعة‭ ‬كارتون‭ ‬سمراء‭ ‬إلى‭ ‬جنبه‭ ‬كتبها‭ ‬عليها‭ ‬كلمات‭ ‬إنكليزية‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬الطرافة‭.‬

‭- ‬إذا‭ ‬كنتَ‭ ‬تنزعج‭ ‬من‭ ‬النقود‭ ‬المعدنية‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬جيبك؛‭ ‬فيمكن‭ ‬أنْ‭ ‬تمنحها‭ ‬لي،‭ ‬شكراً‭.‬

‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عشرين‭ ‬عاماً‭ ‬من‭ ‬إقامتي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬لمْ‭ ‬أجدْ‭ ‬مُشرَّداً‭ ‬يستدرج‭ ‬العابرين‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬الذكيَّة‭ ‬التي‭ ‬تحفظ‭ ‬كرامته،‭ ‬فالمدمنون‭ ‬على‭ ‬المخدرات‭ ‬يباغتونك‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكانٍ‭ ‬ويرغمونك‭ ‬على‭ ‬مساعدتهم،‭ ‬يمدُّونَ‭ ‬أكفَّهُم‭ ‬بإلحاحٍ‭ ‬ناشدين‭ ‬سيجارةً‭ ‬أو‭ ‬عملةً‭ ‬نقديةً‭ ‬صغيرةً،‭ ‬يجمعونها‭ ‬قطعة،‭ ‬قطعة‭ ‬طيلة‭ ‬ساعات‭ ‬تشرَّدهم‭ ‬ليشتروا‭ ‬زجاجة‭ ‬نبيذ‭ ‬أو‭ ‬سيجارة‭ ‬مخدّرة‭. ‬ولما‭ ‬كانت‭ ‬زوجتي‭ ‬قدْ‭ ‬اعتادتْ‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬صباحٍ‭ ‬على‭ ‬إيداع‭ ‬قطعة‭ ‬نقود‭ ‬صغيرة‭ ‬في‭ ‬آنية‭ ‬فخارٍ‭ ‬ركنتها‭ ‬في‭ ‬الحديقة‭ ‬دفعاً‭ ‬للبلاء،‭ ‬حتى‭ ‬امتلأت‭ ‬تلك‭ ‬الآنية‭ ‬بالعملات‭ ‬المعدنية،‭ ‬لكنها‭ ‬تأبى‭ ‬إعطاء‭ ‬تلك‭ ‬الصدقات‭ ‬الوفيرة‭ ‬إلى‭ ‬المشردين‭ ‬هنا،‭ ‬معظمهم‭ ‬من‭ ‬السكان‭ ‬الأصليين‭ ‬والذي‭ ‬يطلق‭ ‬عليهم‭ ‬تسمية‭ “‬الأبروجنول‭”‬،‭ ‬فهي‭ ‬تعتقد‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬الدين‭ ‬الشرعية‭ ‬لا‭ ‬يستحقون‭ ‬الحصول‭ ‬عليها‭ ‬لأنهم‭ ‬يشربون‭ ‬المنكر‭. ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬اقترحتُ‭ ‬عليها‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬على‭ ‬جناح‭ ‬السرعة‭ ‬لأجلب‭ ‬الصدقات‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المشرَّد‭ ‬بعينيه‭ ‬الزرقاوين‭ ‬المطفأتين‭ ‬من‭ ‬الأسى،‭ ‬نظرت‭ ‬إلى‭ ‬وجهي‭ ‬شزراً‭ ‬لتقول‭: ‬إنَّهُ‭ ‬مدمن‭ ‬على‭ ‬المخدرات‭ ‬ولا‭ ‬تجوز‭ ‬عليه‭ ‬الصدقة،‭ ‬عبثاً‭ ‬حاولتُ‭ ‬إقناعها‭ ‬وابتعدتْ‭ ‬عن‭ ‬المشرَّد‭ ‬الطريف‭ ‬متبرّمة،‭ ‬بينما‭ ‬أفرغتُ‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬جيبي‭ ‬من‭ ‬نقودٍ‭ ‬معدنيةٍ‭ ‬إكراماً‭ ‬لذكائهِ‭ ‬اللامع‭. ‬في‭ ‬طريق‭ ‬عودتنا‭ ‬إلى‭ ‬المنزل،‭ ‬استفاقتْ‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬المفارقات‭ ‬المؤلمة‭ ‬التي‭ ‬صادفتها‭ ‬أيام‭ ‬الحصار‭ ‬في‭ ‬وطني،‭ ‬واحدة‭ ‬منها‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إزاحتها‭ ‬عن‭ ‬خاطري‭ ‬إلاَّ‭ ‬عند‭ ‬الموت،‭ ‬عندما‭ ‬كنتُ‭ ‬أتجوَّلُ‭ ‬ظهراً‭ ‬في‭ ‬نفق‭ ‬الباب‭ ‬الشرقي‭ ‬وبقايا‭ ‬ثمالة‭ ‬الليل‭ ‬مازالت‭ ‬في‭ ‬رأسي‭ ‬وجيوبي‭ ‬تصفرُ‭ ‬فيها‭ ‬الريح‭ ‬وقدْ‭ ‬هدَّني‭ ‬الجوع،‭ ‬لأقفُ‭ ‬منكسراً‭ ‬أمام‭ ‬امرأة‭ ‬في‭ ‬الأربعين‭ ‬من‭ ‬عمرها‭ ‬على‭ ‬ذقنها‭ ‬وشْمٌ‭ ‬سومريٌّ،‭ ‬كانت‭ ‬تجلسُ‭ ‬عند‭ ‬حافة‭ ‬السلم‭ ‬الأسمنتي‭ ‬المؤدي‭ ‬إلى‭ ‬شارع‭ ‬السعدون‭ ‬وقدْ‭ ‬تناثرت‭ ‬أرباع‭ ‬الدنانير‭ ‬المعدنية‭ ‬على‭ ‬قطعة‭ ‬قماش‭ ‬قذرة‭ ‬مفروشة‭ ‬أمامها،‭ ‬تأملتني‭ ‬تلك‭ ‬المرأة‭ ‬بشفقةٍ‭ ‬لا‭ ‬حدود‭ ‬لها‭ ‬وسألتني‭: ‬

‭- ‬بُني‭ ‬هل‭ ‬أنت‭ ‬جائع؟‭ ‬

بقيتُ‭ ‬صامتاً‭ ‬كأنَّ‭ ‬الخرس‭ ‬أصابني‭ ‬بغتةً‭ ‬وثمة‭ ‬دمعة‭ ‬بدأتْ‭ ‬تحرق‭ ‬جفني،‭ ‬أردفتْ‭ ‬بحنانٍ‭: ‬

‭- ‬خُذْ‭ ‬ما‭ ‬يسدُّ‭ ‬جوعك،‭ ‬وحين‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬المال‭ ‬ردَّ‭ ‬لي‭ ‬ديني‭.‬

‭ ‬بيدٍ‭ ‬مرتعشةٍ‭ ‬التقطتُ‭ ‬ربع‭ ‬دينار‭ ‬والعبرات‭ ‬تنهمر‭ ‬على‭ ‬وجهي‭. ‬حين‭ ‬سمعت‭ ‬زوجتي‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬مني،‭ ‬ارتجف‭ ‬جسدها،‭ ‬وإذا‭ ‬بها‭ ‬ترجوني‭ ‬على‭ ‬حمل‭ ‬الصدقات‭ ‬الوفيرة‭ ‬لذلك‭ ‬المشرَّد‭ ‬الطريف،‭ ‬بعد‭ ‬مضي‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬عدتُ‭ ‬إليه،‭ ‬كان‭ ‬مساءً‭ ‬موحشاً‭ ‬قد‭ ‬هبط‭ ‬على‭ ‬المدينة‭ ‬وأغلقت‭ ‬المتاجر‭ ‬أبوابها‭ ‬وتبخَّر‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬الشوارع،‭ ‬رأيتهُ‭ ‬ثملاً‭ ‬يترنَّمُ‭ ‬بأغنيةٍ‭ ‬مرحةٍ‭ ‬وقدْ‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬قطعة‭ ‬الكارتون‭ ‬السمراء‭ ‬التي‭ ‬كتب‭ ‬عليها‭ ‬عبارته‭ ‬الطريفة‭ ‬مائدةً‭ ‬لشرابه،‭ ‬وحين‭ ‬عرضتُ‭ ‬عليه‭ ‬كيس‭ ‬الصدقات،‭ ‬صعقتني‭ ‬إجابتهُ‭: ‬

‭- ‬إنَّ‭ ‬عملي‭ ‬انتهى‭ ‬قبل‭ ‬ساعةٍ،‭ ‬تعال‭ ‬صباح‭ ‬الغد،‭ ‬يا‭ ‬سيدي‭.‬

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *